عقيدة الثالوث القويمة |
|
الباب الأول الاعتراضات على عقيدة الثالوثالاعتراض الأول والرد عليه الاعتراض الأول على عقيدة الثالوث هو القول بأن نسبة الأبوة والبنوة إلى الإله مخلة بشرفه الأقدس . يمكن قسمة هذا الاعتراض إلى قسمين :
وكلا الأمرين مخل بوحدة الإله . (١) فجوابا على هذا نقول أن من أمعن النظر في هذين الاعتراضين ثبت له بطلانهما . اذ يجب التمييز بين الأبوة والتوالد . لأن الأب شئ والوالد شئ آخر . فكل أب يجوز أن يدعى والدا ولكن ليس كل والد أبا لأن الوالدية (أو التوالد) أمر يشترك فيه الإنسان والحيوان ـ بل النبات أيضا وكل ما يلد نوعا من جنسه . فمن المضحكات إذا أن نقول أن السمكة الفلانية هي "أب" السمكة الأخرى أو أن هذا النبات هو "أب" ذاك . فعندما نزرع بذرة فيالأرض لا نفتكر في النبات الذي أنبت تلك البذرة وبالنتيجة النبات الذي ينمو منها . وهذا يبين جليا أننا عندما نتكلم عن أب وابن بشريين لا يكون لمعنى التوالد إلا محل ثان في أذهاننا . أما المحل الأول فتشغله اعتبارات أدبية محضة أو علاقات روحية بين كائنين أدبيين ومن تلك العلاقات المحبة (وهي أولها وأهمها) والإكرام والمناجاة المتبادلة والتبادل الكامل المبارك ووحدة الطبيعة والصفات والإرادة والاتفاق في العمل وتناسب الوظائف . هذا وإننا نشير هنا إلى الأبوة والبنوة الكاملتين وهو أمر نادر في هذا العالم . على أننا كثيرا ما رأينا هذه الأمور في الآباء والأبناء الأرضيين . فهل في هذه الصفات في حد ذاتها ما هو مخل بشرف الله الأقدس من الوجهة الأدبية ؟ كلا لعمري . أما كون هذا الأمر يقتضي التعدد فنرجئ الكلام عليه إلى ما بعد . ولكن من الوجهة الأدبية لا نخال أحدا ينكر أن الصفات الأدبية التي ذكرناها تليق جميعها بالله ولا نشك أنه تعالى لهذا السبب استعمل لفظتي الأبوة والبنوة لكي يفهمنا العلاقة بينه وبين كلمته الأزلية . ولولا ذلك لا نصرف العقل إلى تصوير تلك العلاقة صورة فلسفية محضة كما فعل فيلو الفيلسوف اليهودي ولتجردت العقيدة حينئذ من كل فائدة روحية وأدبية تفيد النفس . ولكن الواقع أن دعوة الله والكلمة أبا وابنا متحدين بروحهما المتبادل قد دفع الإنسان إلى البر والقداسة في المعيشة العائلية وأراه معنى جديدا للمحبة والمشاركة في الأفكار بشرط أن يفسح لهذه الأفكار مجالا رحبا في القلب أيضا ولا يقصره على العقل فقط . ونرى مما تقدم أننا قد دفعنا نصف الاعتراض الثاني أيضا وهو القائل بأن الأبوة والبنوة تقتضيان التتابع الزمني وأنه بناء على ذلك لا يكون الابن أزليا كالأب بل يكون قد وجد بعده وأن الله أصبح (ولم يكن في الأزل) أبا . ولكن قولنا أن التوالد دون الأبوة لا علاقة له بكائن روحي يقتضي الاعتقاد بأنه لا محل للقول بالتتابع . فإذا حصرنا أفكارنا في الوجهة الأدبية فقط من الأبوة والبنوة مجردتين من التوالد نجدهما متبادلتين متلازمتين وبعبارة أخرى أنها متعاصرتان . وباعتبار الله أزليتان . فإذا سلمنا بأن في الله انتسابات أزلية لم تبق صعوبة في استعمال لفظتي أب وابن في الكلام عن الله وكلمته باعتبار أدبي محض وهذان الآب والابن هما متحدان بروحهما المتبادل أي الروح القدس . ورب معترض يقول ألا تعلمون أن مسألة الأبوة والبنوة باعتبار الله عثرة في سبيل المسلمين . ونفورهم من مثل هذا المعتقد يجري مجرى الدم في عروقهما فليس من الحكمة استعمال ألفاظ (كالأب والابن) لا يدركها الجميع مع أنها لم توضع في الأصل إلا كرمز إلى حقيقة أزلية لا بمعنى أنها الحقيقة بكاملها . أما الآن فإن استعمال هذه الألفاظ يفضي إلى عكس المقصود فلماذا لا يعدل عنها إلى ألفاظ أخرى أكثر موافقة وأدل على الحقيقة ؟ نقول أننا لا يجوز لنا أن نتلاعب بتعبيرات قالها الله وقررها في كتابه لأن استمرارها في الكتاب المقدس واستعمال الكنيسة لها يجعلانها بمثابة دستور حي يجب الاحتفاظ به فإذا أهملنا هذه التعبيرات من ديانتنا لا نلبث أن نرى الناس يهملون جانبا كبيرا من الحقيقة الرامزة هي إليها فيضيع المعنى المدلول عليه وإذا فقد معنى الأبوة باعتبار الله من الديانة فقد الكثيرون أثمن شئ عندهم في الدين . ورب قائل يقول :- إذا يستحسن استعمال لفظة "أب" بمعناها العام فنسمي الله أبا بمعنى أنه يحب الناس ويسد إعوازهم كما يفعل الأب مع بنيه ؟ نقول أنه مما يستحق الملاحظة أن المسلمين ينفرون حتى من هذه التسمية وذلك يبين حقيقة الفرق بين اعتقادهم في الله واعتقاد فيه كالاب السماوي . وقد ورد ما يؤيد دعوانا في مسند أحمد بن حنبل جزء ٦ وجه ٢١ نص (١) للصلاة الربانية كما صادق عليها نبي المسلمين وقد حذف منها قوله "أبانا" ـ ذلك النداء الذي أفرح ألوف الخطاة وغير أفكارهم عن الله . وهذا يدلك على أنك إذا طويت كشحا عن مذهب أبوة الله الأزلية وتلاعبت بلفظتي "آب" و"ابن" فلا تلبث أن تجرد الله من صفات الأبوة بأي اعتبار كان . وكذلك إذا أنكرت بنوة المسيح الأزلية لا تلبث أن تجرد النفس من تلك البنوة بأي اعتبار كان وهذا مما يثبته لنا العقل والتاريخ ـ لا الاعتقاد فقط . والحق إنه من المحزن جدا أن يتكلم نبي المسلمين بشدة عن أمور لم يدركها تماما ولا شك أنه خلط (كما يتضح من القرآن) مذهب الأبوة عند المسيحيين والعلاقات الأزلية بين الأب والابن والروح القدس بمذهب وثنيي مكة القائلين بأن لله بنات الهات . أما (١) "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك . أمرك في السماء والأرض اللهم كما أمرك في السماء . فاجعل رحمتك علينا في الأرض اللهم رب الطيبين . اغفر لنا عيوبنا وذنوبنا وخطايانا ونزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك" (عن عبد الله ….. عن فضالة بن عبيد الأنصاري عن …. وهي رقية) قوله (لم يلد ولم يولد) فلا يبعد أن يكون موجها للمكيين لا للمسيحيين لأن نبي المسلمين إما أنه لم يفهم عقيدة الثالوث تمام الفهم أو أنه كان يحارب عقائد ينكرها كلا المسلمين والمسيحيين . لأنه يبان من القرآن نفسه أن الثالوث حسب رأي نبي المسلمين مؤلف من أب وابن ! وأم هي مريم العذراء . إن حالة اليهود في زمن الرسل وحالة المسلمين اليوم ودائما ليستا متشابهتين من هذه الوجهة تماما فإن اليهود على رغم أنهم كانوا موحدين وأنهم كانوا يتدرجون إلى مذهب التنزيه المطلق فإن أسماءهم كانت قد ألفت ألفاظا "كالله الآب" أو "ابن الله" كما يظهر من درس التوراة حيث تستعمل هذه الألفاظ للدلالة على أية علاقة شديدة ونسبة وثيقة بين الله والأمة المختارة ثم بين الله والملك الممسوح وأخيرا بينه وبين المسيح المسيا المنتظر . فقد كان من السهل إذا على تلاميذ المسيح الاثني عشر الموحدين وعلى غيرهم من المدركين كبولس مثلا أن يفسروا تلك الألفاظ بمعناها الروحي ـ أي النسبة الأزلية الكائنة بين الله وكلمته المتجسدة . والحق أن المسلمين أنفسهم يعتقدون بإمكانية أزلية الكلمة إذ يقولون بأزلية القرآن . وخلاصة الرد على الاعتراض الأول أننا إذا حذفنا معنى التوالد من الأبوة الروحية كأنها لا تطابق كائنا روحيا لم يبق لقولنا أب وابن سوى اعتبارات أدبية تليق بالله . وهذا الحل يحل لنا أيضا مشكلة الآب والابن باعتبار التتابع الزمني . ويبين لنا أن العلاقة بينهما متبادلة وبالنتجية أزلية . ولكن لا يزال هناك صعوبة أخرى وهي التعدد
باعتبار الله الواحد وفيها بحثنا الآن .
|