عقيدة الثالوث القويمة

الديباجة الأصلية
الباب الأول الاعتراضات على عقيدة الثالوث
الاعتراض الأول والرد عليه
الاعتراض الثاني والرد عليه
الاعتراض الثالث والرد عليه
الاعتراض الرابع والرد عليه
الاعتراض الخامس والرد عليه
الباب الثاني ـ عقيدة الثالوث تسهل بعض المعضلات الدينية
الله والخلق
الله الخالق ولا سيما خالق الإنسان
الباب الثالث ـ عقيدة تجسد الكلمة
المبحث الأول ـ التجسد
لاعتراض الأول
الاعتراض الثاني
الاعتراض الثالث
الاعتراض الرابع
الاعتراض الخامس
الباب الرابع ـ كفارة الكلمة المتجسدة

عودة للرئيسية

الاعتراض الرابع

ولرب معترض يقول أن التجسد يقيد الإله بحدود الزمن . ولما كان الزمن والحدوث يتضمن كل منهما الآخر فالتجسد يقيد الإله بالحدوث .

فالجواب على هذا الاعتراض شبيه بجوابنا على مشكلة الحيز .

أي أنه إن كان هنالك إشكال فهو كائن بطبيعة الحال في مسألة خلق العالم . فمجرد القول بأن الله خلق عالما محدودا وهو يديره بنظام محدود يجعل الله مقيدا بالحيز الزمني نوعا ما سواء كان في نظر المسلم أو المسيحي أو اليهودي . وإن أقوال الله وأفعاله وأفكاره إنما تتمثل لنا بصورة متلاحقات زمنية أي أنها أشبه بحلقات متصله بسلسلة الزمان فلها ماض وحاضر ومستقبل . والقرآن من أوله إلى آخره مملوء بذكر حوادث تقيد الله تعالى بالقيود الزمنية إذ يعزو إليه أمورا فعلها أو لا يزال يفعلها أو سيفعلها . ولما كان اللفظ بمثابة مرآة للمعنى وكلمات لله تعبر عن أفكاره فقد قيدنا فكر الله بالصيغ الزمانية . وإذا قيدنا الفكر فقد قيدنا المفكر نفسه . وإذا كان الزمان والحدوث يتضمن أحدهما الآخر فإن الله بتقييده نفسه بنظام زمني قد قيد نفسه بالحدوث .

ولسنا ننكر أن هذه الاستنتاجات لا تفضي بنا إلى كل الحق فإن الله منزه في الحقيقة عن الزمن . ولكن كلا المسلم والمسيحي عاجز عن إدراك هذه الحقيقة . ولهذا لا نرى للمسلم حقا بعزو هذه الشبهة إلى الديانة المسيحية مع أنها كائنة في الديانة الإسلامية أيضا .

وإذا قال المسلم أن تقييد الله تعالى بالحدود الزمنية على الوجه المار ذكره إنما هو في الظاهر فقد قلنا يجوز أن نعتبر للتجسد أيضا وجهة باطنة ووجهة ظاهرة . فالوجهة الزمنية هي حقيقية بقدر ما الزمن هو حقيقي . والوجهة الأبدية لا يستطيع أحد إدراكها . وإذا حاول المسلم أن يتنصل من هذا المشكل بقوله أن الحوادث وأعمال الله وأقواله وأفكاره وإن وقعت في الزمن فإنها لا تؤثر في ذات الله أو فكره تعالى لأن جميعها كانت مدونة في اللوح المحفوظ أي أنها كانت في فكر الله منذ الأزل فلم يكن لها ماض ولا حاضر ولا مستقبل ـ نقول أن هذا التأويل لا يجدي فتيلا إذ لا بد للمسلم من التمييز بين وجود العالم خياليا في فكر الله تعالى ووجوده وجودا حقيقيا محسوسا وإلا فإن العالم أزلي كذات الله . وإذا سلم المسلم بوجود فرق صح القول بأن الله بعد أن أخرج العالم من حيز الفكر إلى حيز المحسوس قيد نفسه نوعا ما بقيود زمنية وما يترتب عليها من النتائج على الوجه المار ذكره .

وإذا ادعى المسلم أن الذات شئ والصفات شئ آخر وأن ذات الله منزهة عن الوقت حالة أن صفاته يجوز أن يكون لها تعلق بالحوادث بدون أن يمس ذلك بتنزهه تعالى ـ نقول أنه قد يمكن أن يكون في هذا الرأي شئ من الصحة ولكنه يتناول الفكر في حد ذاته أي فكر الإنسان لا الإله فقط . فقد ذهب الفلاسفة إلى أن في ذات الإنسان شيئا منزها عن الزمن والدليل على ذلك أنه لو لم تكن الأعمال والأفكار والذات نفسها داخلة في الحيز الزمني لاستحال على الإنسان تمييز الحوادث ولتعذر عليه أن يفرق بين الأمور فيندفع إذ ذاك مع تيار الحيز الزمني بدون فكر أو إدراك كما تندفع أوراق الشجر بمجرى النهر . فلا بد إذا هنالك من وجود نقطة ثابتة منزهة عن الزمن تمكن الإنسان من تمييز ما هو غير ثابت ولا بد له من موقف منزه عن الزمن ليدرك به الزمن . وما يصدق على الله يصدق أيضا على روح الإنسان . وهذا الفكر يعين على إدراك عقيدة التجسد إذ أنه يثبت أن في الإنسان اعتبارا غير زمني هو أساس ذاته ولعله كان حلقة الاتصال بين الطبيعتين الإلهية والزمنية في شخص الكلمة المتجسدة يسوع المسيح .

والخلاصة أن التجسد هو وجهة خاصة من وجوه المشكلة العامة بل إنما هو من توابع الترتيب الذي تنازل الله بموجبه فقيد نفسه عند خلقه العالم وسنه ناموسا لإرادته.