عقيدة الثالوث القويمة

الديباجة الأصلية
الباب الأول الاعتراضات على عقيدة الثالوث
الاعتراض الأول والرد عليه
الاعتراض الثاني والرد عليه
الاعتراض الثالث والرد عليه
الاعتراض الرابع والرد عليه
الاعتراض الخامس والرد عليه
الباب الثاني ـ عقيدة الثالوث تسهل بعض المعضلات الدينية
الله والخلق
الله الخالق ولا سيما خالق الإنسان
الباب الثالث ـ عقيدة تجسد الكلمة
المبحث الأول ـ التجسد
لاعتراض الأول
الاعتراض الثاني
الاعتراض الثالث
الاعتراض الرابع
الاعتراض الخامس
الباب الرابع ـ كفارة الكلمة المتجسدة

عودة للرئيسية

الباب الثاني

عقيدة الثالوث

تسهل بعض المعضلات الدينية

الله والخلق

قد رأينا مما سبق أن عقيدة الثالوث بدلا من جعلها الاعتقاد بالله من الأمور العسرة هي في الحقيقة تزيل بعض المشاكل التي يجدها الإنسان في الأديان الموحدة ومنها الاسلام نفسه . فمن تلك المشاكل أننا إذا تغاضينا عن عقيدة التثليث لا نستطيع أن ندرك السبب الذي من أجله خلق الله العالم مع أنه تعالى مكتف بنفسه قائم بذاته . ألم يكن خلقه للعالم ضارا بصفة القيام بالذات ؟ والحق أن جميع علماء الاسلام ودارسي عقائده يدركون وجاهة هذه المعضلة وما عقيدة الصدور وقدم العالم التي جاء بها أئمتهم وقول صوفيتهم "كنت كنزا مخفيا الخ" الا أدلة قاطعة على حقيقة تلك المعضلة . ولكن لو نظروا فيها باعتبار عقيدة التثليث لرأوا الإشكال أخف جدا .

فنلخص هنا أولا المشاكل المترتبة على العقيدة الاسلامية بخصوص الخلق :

(1) كيف استطاع الإله الخالق أن ينتقل من حيز التنزه عما سواه إلى قيامه بالخلق وصيرورته خالقا ؟ أليس ذلك "صيرورة" بكل معنى الكلمة ؟

(2) إن قدرة الله لم يكن يمكن أن تظهر قبل الخلق لأنها إنما ظهرت بالخلق . فالقدرة إذا كانت "إمكانية" لا عاملة . ولا يخفى أن "الإمكانية" لا يمكن أن تغني صاحبها عن العمل بل هي باعتباره نقص . فإذا قلنا أن عمل الخلق كان لازما لإخراج قدرة الله من حيز "الإمكان" وإطلاق حرية العمل فقد نسبنا إلى الله النقص والاعتماد على الغير .

(3) إن الخلق في هذه الحالة هو بدء علاقة أو نسبة بين الخالق وما سواه . على أن بدء التعلقات هو بمثابة بدء حياة جديدة لكائن ما فهو مناقض لمذهب التنزيه كل المناقضة .

(4) إن التعلقات بين كائنين تقتضي الأثر أو الانفعال المتبادل بوجه من الوجوه . فالكلام بين اثنين يقتضي أن السامع يسمع صوت مخاطبه . وهذا مخالف لمذهب التنزيه إذ كيف يمكن للاله المطلق أن يخرج عن حيز الفعل ويدخل حيز الانفعال بهذه الكيفية .

أما عقيدة الثالوث التي جاء بها المسيح فإنها تقلل هذه المشاكل إن لم نقل أنه تزيلها كما ترى مما يأتي :

(1) إنها تعلن لنا إلها ذا قدرة أزلية ظاهرة من خلال عملها الأزلي . فالمحبة جوهر ذاته وقد كانت عاملة منذ الأزل فيه ولا صفة أشد عملا من صفة المحبة . ولذلك عندما خلق الله العالم لم ينتقل من طور العمل الإمكاني إلى طور العمل الفعلي ـ أي أنه لم يكن هنالك مجال للقول بالصيرورة ـ بل كان يعمل بمقتضى صفته الأزلية . فالخلق كان نتيجة تلك المحبة التي كانت ترغب في وجود سعادتهم وقد كان (أي عمل الخلق) صادرا عن المحبة وهي ملخص مجموعة صفات الذات عاملة لا ممكنة فقط وظاهرة لا كامنة منذ الأزل .

(2) إن الاعتقاد بإله مثلث الأقانيم يدل على أن خلق العالم لم يكن بدء تعلقات الذات . لأنها تجعل الله ذا علاقات منذ الأزل وتلك العلاقات تفوق أسمى أنواعها المعروفة في الأشياء الحادثة أو المخلوقة على الأرض وليس خلق عالم ذي علاقات حادثة سوى صدى التعلقات الأزلية الكائنة في ذات الله .

(3) إن الاعتقاد بإله مثلث الأقانيم يزيل الصعوبة الناشئة عن نسبة الانفعال والتقيد والتأثر إلى الله ـ الأمر المناقض للتنزيه المطلق والذي لا بد منه إذا نسبنا فعل الخلق إلى الله . فهذه الصعوبة تفقد أهميتها عند الاعتقاد بالثالوث إذ قد رأينا أن الذات الإلهية تقتضي وجود علاقات وأن التقيد إنما هو قابلية العلاقات والانتسابات . فجميع الانتسابات هي قيود بنوع ما وتقتضي التأثير والتأثر والفعل والانفعال . والذات (أي الله الذي هو آب وابن وروح قدس) هي مقر تلك الانتسابات المباركة .

ترى لماذا نخشى من التصريح بهذه الأمور ؟ إن المحبة الحقيقية والحرية الحقيقية لا تقتضيان التجرد من القيود والانتسابات . أجل إن المحبة والحرية تقتضيان التقيد الذاتي وقد كان جميع ذلك موجودا في ذات الإله منذ الأزل لأن "الله محبة" ذات أقانيم ثلاثة ـ الآب والابن والروح القدس .

ثم أن الطوبى الحقيقية تلوح من خلال العمل وقبول أثر العمل . فالتأثر لا يحط من شأن الله بل إن الذات تقتضيه والمحبة والطوبى تستلزمانه .

وكذلك العواطف فإن ضمير الإنسان وقلبه وحاجاته تتطلب إلها لا يقف بعيدا غير مكترث بل يكون ذا عواطف على أن عقل الإنسان كثيرا ما حاذر نسبة هذه الصفة الواجبة إلى الله زعما منه أن الله منزه عن أن تؤثر فيه أمور الإنسانية البتة . فعقيدة الثالوث التي تقول أن "الله محبة" تبدد تلك المخاوف لأن المحبة وهي في حد ذاتها أسمى أنواع الحياة تقتضي ظهور العواطف المقدسة . فالعواطف إنما هي أمر لازم لكيان الله الأدبي .

فنرى مما تقدم أن المشكل الذي يعترض بعض العقول ـ ومؤداه أن الله معرض للتقيد والتأثر والانفعال (وبالنتيجة للضعف والنقص) قد أزالته عقيدة الثالوث . لأن التعليقات التي ترتبت على خلق العالم لم تكن إلا بالأمر الجديد عند الله إذ كانت أزلية فيه نظرا لوجود الأقانيم . ولم تكن لتحط من مجده تعالى وقد كانت موجودة بقطع النظر عن خلق العالم فهي إذا من كيانه وبواسطتها يعلن ذاته لنا . فلما خلق العالم وأقام تعلقات بينه وبين الأشياء المخلوقة وكل ما يترتب على ذلك من تقيد وتأثير وتعرض للعواطف ـ لم يكن ذلك بالأمر الجديد عليه بل إنما أعلن ذاته لخليقته إعلانا متعلقا بالزمان .

________