عقيدة الثالوث القويمة |
|
الله الخالقولا سيما خالق الإنسان أما باعتبار خلق الله للطبيعة البكماء فقد يسلم بأن الله لم يقيد نفسه لأنه إنما خلق شيئا تحت مطلق تصرفه قابلا للأثر ولكن غير قادر على إحداث أثر . وأقل حركة منه إنما هي بأمر الله . وبما أن ذلك المخلوق شئ ميكانيكي فليس بينه وبين خالقه أوجه شبه . ولكن ما عسانا أن نقول عن الإنسان خليقة الله العاقلة المتصفة بالعلم والقدرة والوجدان ؟ هل في إمكاننا أن نتغاضى عما بينه وبين الله من أوجه الشبه باعتبار هذه الأمور وكيف تتم المخاطبة بينه وبين الله مع العلم بأن التخاطب يقتضي أن يكون بين المخاطب والمخاطب بعض الشبه ؟ فإذا نظر الحيوان إلى الرسوم الهيروغليفية مثلا فإنه لا يدرك لها معنى ولا يرى فيها سوى علامات مرسومة . ولكن الإنسان إذا نظر إليها أدرك أن لها معنى وذلك لوجود تناسب بينه وبين الذين رسموها . وقس على ذلك النبوة أيضا فإنها تقتضي وجود شبه بين الله والإنسان ـ الأمر الذي ينفيه وينكره التنزيه المجرد على رغم تسليم أنصاره بوجوب التخاطب ـ وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى على العقل السليم . ولكن المسلم يقول أن العالم بما فيه من إنسان وحيوان إنما هو آلة في يد الله . على أن هذا القول لا يزيل المشاكل العقلية التي أشرنا إليها سابقا فضلا عن أن مثل هذه الفلسفة تجرد الله من صفة الحب إذ ليس أحد يحب الآلة الميكانيكية وإن تكن الآلة تحت مطلق قدرته . وكذلك لا معنى للقول بأن الآلة الميكانيكية تحب صانعها حتى على فرض أنها تعقل وتدرك إرادته . ألا ترى أن في الأمر إشكالا يستوجب أحد أمرين ـ فإما أن تسلم بأن عقل الإنسان حقيقي (وفي هذه الحالة لا مناص من القول بأن الله لا يعطي فقط بل يأخذ أيضا . ولا يخاطب فقط بل يخاطب أيضا . ولا يعرف فقط بل يعرف أيضا . ولا يتكلم فقط بل يسمع أيضا) وجميع ذلك نوع من التأثر ويناقض مذهب التنزيه المطلق . أو أن تقول بأن عقل الإنسان ميكانيكي كإرادته فيكون كأنه يظهر أنه يسمع حالة أن الله هو الذي يسمع . ويظهر كأنه يتكلم حالة كون الله هو الذي يكلم نفسه . ويظهر كأنه يعلم حالة كونه يعلم . فوجدانه إذا عدم وذاتيته مضمحلة وهو نفسه يشبه شخصا في رواية يتحرك ويفتكر ويتكلم مع أنه في الحقيقة لا وجود له إلا في مخيلة الكاتب الإسلامي . فمن هذين الأمرين لا شك أن الأول يجب أن يختار والثاني يرفض وإذا كانت الحالة كهذه يجب أن يقال أنه إذا كان التنزه المطلق لا يتفق مع خلق الطبيعة فإنه بالأولى لا يمكن أن يتفق مع خلق كائن روحي كالإنسان . والحق يقال أننا كثيرا ما نرى أن بعضا من أئمة المتمسكين بمذهب التنزيه المطلق يذهبون إلى القول بأن الله هو الحقيقة الوحيدة الكائنة وكل ما سواه وهم . ولهذا يسمون الله "الحق" بمعنى أن كل ما سواه باطل . فهم إذا من القائلين بمذهب وحدة الوجود وهم لا يعلمون. وفلسفتهم أشبه بفسلفة الهنود إذ يعتبرون كل ما في العالم ما خلا الله سرابا زائلا . فنرى أن المغالاة في التنزيه وصل بقائليه إلى تطرف مناقض وإلى توحيد لا يفهم منه أن الله وحيد في نوعه بل إنه "الواحد الذي لا يوجد ثان له" ومنكرا وجود جميع المظاهر الكونية . هذه هي المشاكل العقلية والأدبية التي تفضي إليها عقيدة الإسلام في الله ولا سيما باعتبار خلق الإنسان . ولو نظرنا إليه تعالى بنظر المسيح فاعتبرناه أبا وابنا وروحا قدسا لزال الإشكال وانتهت الصعوبة . ولقد رأينا أن النظر إليه تعالى باعتبار عقيدة الثالوث واعتباره محبة يسهل لنا اعتباره خالقا للعالم أجمع ولا سيما للإنسان الذي له قوة الفكر والذاكرة ومعرفة النفس كالنفس ومعرفة الغير كالغير والضمير والعقل ـ وبعبارة مختصرة الإنسان الذي له دون سائر المخلوقات (على ما نعلم) عقل وهو قادر على الصلاة وعلى إظهار روح الشكر والمحبة فهو بهذه الاعتبارات على صورة الله وشبهه . وفي الختام لا بد لنا من ذكر الأمور الآتية :- (1) لو فرضنا أن الله خلق كائنا وأودع فيه صفة الحب حالة كونه تعالى خاليا من المحبة الحقيقية فيكون كأنه قد خلق كائنا أعظم منه لأن المحبة أثمن ما في العالم . ولكننا قد رأينا أن الله محبة فلا عجب أنه أوجد في الإنسان الذي خلقه صفة الحب . (2) إذا كان لله غاية في خلقه العالم فهي إظهار مجده تعالى ـ وليس المقصود من "مجده" قوته لأن إظهار القوة في حد ذاتها أمر عقيم . وأما إظهار قوة المحبة فبخلاف ذلك . ولو اقتصر الله على خلق النظام الشمسي فقط أو خلق المملكة المعدنية أو النباتية لكانت الخليقة غير تامة . ولماذا ؟ لأن تلك الخلائق لا يمكنها أن تدرك وجود الله أو أن تحبه أو تمجده أو تسعى لتتمثل به . ولهذا لم تقف الخليقة عند حد الحيوانات السفلى بل تعدتها إلى الإنسان الذي هي خاضعة له وهو تاجها وفيه يستيقظ الخلق كما يستيقظ العقل من حلم مبهم . وأن لله في الإنسان مخلوقا يخاطبه ويسمعه ـ مخلوقا يشبهه . إننا نعلم أن هذا الشبه مكروه عند المسلم لأنه يناقض عقيدة الوحدانية التي يتمسك بها . ولكن إنكار ذلك يستلزم طبعا إنكار إمكان التخاطب والمحبة بين الله والإنسان لأن المخاطبة كما رأينا تستلزم وجود شبه روحي بين المتخاطبين والمحبة تقتضي ذلك الشبه طبيعيا . لذلك قال الكتاب المقدس أن الله "خلق الإنسان على صورته" (تكوين) . وقال أيضا "... لبستم (الإنسان) الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسي 3:10). إن عبارة التكوين قد وردت في حديث يعلمه جميع علماء الإسلام ولعله قد حيرهم . ومن أراد أن يعلم شدة رغبتهم في تأويله تأويلا ينطبق على فلسفتهم فعليه بمراجعة مشكاة الأنوار للعلامة الغزالي (وجه 34) ويؤخذ من وجود هذا الحديث عند المسلمين أنهم هم أنفسهم يريدون أن يوجدوا صلة بين الله والإنسان إلا أن رغبتهم هذه لا يمكن أن تتم إلا في الديانة المسيحية . (3) إن عقيدة الثالوث تدلنا على أنه ليس فيها ذكر شئ جديد فإن الله رأى في كلمته "رسم جوهره" أو صورة أقنومه منذ الأزل (عبرانيين 1:3) . فإبداعه عالما يكون أرقى كائناته شبيها به تعالى لا يعد شيئا غريبا بل هو ينطبق على جوهر الله وذاته . قال البحاثة الآب لويس شيخو في كتابه "تفنيد التزوير" (صفحة 10) "إن مرجع تعاليم النصارى في الثالوث الأقدس إلى أن الله عز وجل الواحد الصمد ذا الجلال والكمال والفرد الذي لا يمكن تقسيمه أو تجزئته البتة هو إله عاقل يعرف حقيقة ذاته الإلهية منذ الأزل وبمعرفته لها معرفة تامة لا تخل في شئ عن جوهره يفيض على تلك الصورة مجموع كمالاته كأنه هي وكأنها هو . تلك كلمته الأزلية القائمة بذاتها التي لا تقع تحت قول كن . ولأنها صادرة عنه متولدة منه عقليا دون حركة ولا مكان ولا زمان باقية فيه بلا انفصال دعوناها كلمة ودعوناه أبا كما ندعو معقول عقلنا الذي ينتجه ذهننا ابن فكرنا أو كلمته . وهذه الكلمة تلفظها شفاهنا دون أن تفارق عقلنا وإنما كلمتنا عرض وليس في الله تعالى عرض . فلا بد من القول أن كلمة الله إله كمصدرها . ولما كان الابن يشابه الآب وهو صورته الجوهرية وجب أن تكون علاقة بين الآب وكلمته فيحب صورته وتنجذب الصورة إلى مولدها . وهذه العلاقة ليست عرضا بل جوهرا وهو الروح القدس الحب المتبادل بين الآب وابنه المنبثق من كليهما" (اه) والخلاصة أن ما يراه المسلم مشكلا نراه نحن أمرا سهلا للغاية (أي أن المخلوق العاقل يقتضي التقيد باعتبار الله بوجه خاص) لأننا أدركنا أن المحبة إنما تعيش بشرط التقيد . ________ |