عقيدة الثالوث القويمة |
|
الاعتراض الخامس وهو قولهم أن التجسد ينسب الضعف والمسؤولية إلى الله تعالى . لا يأذن لنا الوقت أن نطيل الكلام على هذا الاعتراض ولكننا سنبحث فيه بالإسهاب عند الكلام عن الكفارة . فيكفي أن نتذكر هنا : (1) أن المفعولية في حد ذاتها هي من الصفات اللازمة للفاعلية . ولذلك لا بد للإله الحي من الاتصاف بها . وقد أثبتنا سابقا أن إله المسيحيين المثلث الأقانيم هو متصف بكلتا الفعلية والمفعولية في ذاته وهذا يدحض زعم الذين يقولون أن الكفارة تقتضي المفعولية . (2) قد أثبتنا أيضا أن انتساب الله إلى العالم واتصاله به يقتضيان المفعولية بمعنى أن الخلق لا يربط فقط المخلوق بالخالق بل يربط أيضا هذا بذاك . وبعبارة أخرى أن تعلق الله بالعالم يقتضي أن تكون العلاقة بين الخالق والمخلوقات عموما (وبين الخالق والمخلوقات العاقلة خاصة) علاقة متبادلة وذلك لأن لكل فعل أثرا لازما والفاعلية لا يمكن أن تتجرد عن المفعولية أبدا . (3) أما قولهم أن التجسد ينسب الضعف إلى الله فعار عن الحقيقة لأن العالم الطبيعي غير العالم الأدبي فما يكون ضعفا في ذاك قد يكون قوة في هذا والعكس بالعكس . ولما كان مصدر التجسد مستقرا في العالم الأدبي لم يكن من المدهش أن يظهر للعين البشرية بمظهر الضعف . ولكن "ضعف" الله أقوى من قوة البشر . الكفارة ـ ملاحظات عامة قلنا مرارا سابقا أننا حالما نهجر أوجه الأمور الأدبية تتغير اعتبارات الموضوع تغيرا عظيما ولذلك يجب أن نغير طريقة البحث والاستقراء لئلا نسقط في الخطأ فالحيز الطبيعي (أو المادي) يبدأ ببدء العلاقة المتبادلة بين شيئين غير عاقلين (كالعلاقة بين دقائق الحجر) أو بين شيئين أحدهما عاقل والآخر غير عاقل (كالعلاقة بين اللاعب وكرة اللعب) فواضح أن هذه العلاقة أو النسبة المتبادلة هي ميكانيكية محضة ولا صلة لها بالحيز الأدبي . وأما الحيز الأدبي فإن الأفعال أو الصفات الداخلة في منطقته لا بد أن تكون صادرة عن خلائق حية عاقلة ولذلك يجب تغيير اعتبار الضعف والقوة وتنقيحه . ففي الحيز الطبيعي أو المادي مثلا ترى القوة صادرة عن استخدام العضلات أو ما أشبه . فهل نقول أن القوة الأدبية أيضا صادرة عن مثل ذلك المصدر أو بأن حفظ السلطة الأدبية لا يتم إلا باستخدام القوة البدنية ؟ كلا ! إن طرق حفظ السلطة الأدبية قد تظهر للبعض كأنها صادرة عن ضعف ولكن الوسائط الأدبية مع ضعفها الظاهري أكثر وأدق وأعظم تنوعا من الوسائط المادية . هذا وإن الهوة العظيمة بين الإسلام والنصرانية هي أن المسلم يجعل العلاقة بين الله والإنسان علاقة مادية (وهذا يجعل الخلائق العاقلة خلائق غير عاقلة) حالة كون المسيحية تجعل الإنسان خليقة أدبية عاقلة ولذلك لا بد أن تكون العلاقة بينه وبين خالقه أدبية أيضا . والسلطة التي يستخدمها الله على الإنسان ليست سلطة مادية مطلقة بل أدبية . وهذا بيت قصيد الخلاف بين الإسلام والنصرانية فمتى زال زال معه كل خلاف آخر لأن ما يراه المسلم ضعفا يراه المسيحي قوة وما يراه ذلك قوة يراه هذا ضعفا . على أن هذه الاختلافات في الآراء تبلغ أشدها عند الكفارة بصلب المسيح . وجبل الجلجثة هو ميدان النضال بين النصرانية والإسلام . فالصلب في نظر المسلم واليهودي هو تجديف على الله لأنه ينسب العجز والضعف إليه تعالى . وأما المسيحي فإنه يرى فيه نصرة لم يشهد العالم مثلها قط لأنه يعلم أن "ضعف" الله أقوى من قوة الإنسان و "ضعف" الوسائط الأدبية أقوى من قوة الوسائط غير الأدبية . إن الحاكم الجائر قد يخضع رعيته لسلطته بالوسائل المادية كالأسلحة والجيوش الخ . ولكن هل هذه هي الطريقة التي يجب أن يستعملها الأب الحكيم مع أولاده ؟ أيجوز له أن يشهر سيفه في وجه طفله عندما يأمره بشئ ؟ ألا يجب أن يستخدم الصبر وطول الأناة والسلطة الأدبية لإخضاعه ؟ قس هذا على ما بين الله والإنسان . أجل . إن الله يستخدم الصبر وطول الأناة فالصبر يفضي إلى الاحتمال والاحتمال يقتضي "المفعولية" ولا يخفى أن الصفات الأدبية لا يمكن تجريدها من أمثال الصبر والاحتمال والمفعولية وغيرها . وقد جاء في الكتاب المقدس آيات كثيرة تدل على صبر الله وطول أناته كقوله "أم تستهين بغنى لطفه وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" وقوله أيضا : "في كل ضيقاتهم تضايق وملاك حضرته خلصهم" . فإذا سلم المسلم بأن الإنسان شرير عاق وأن الله محب رحيم فلا يمكن والحلة هذه أن ينكر الطرق السلمية التي يستخدمها الله لردع ذلك الإنسان الشرير . ومن هنا يتضح لنا أن المحبة والقداسة |