عقيدة الثالوث القويمة |
|
الاعتراض الثاني والرد عليه رب معترض يقول "ان التمييز يناقض التطابق في حد ذاته وكذلك التعدد يناقض الوحدة" نقول إن الحقيقة هي عكس ذلك . فليس في عالم الحقائق تطابق بدون تمييز ولا وحدة بدون تعدد . فليس إذا في الوحدة المثلثة الأقانيم ما يناقض العقل بديهيا بل بالعكس أن الفلسفة القديمة والحديثة تشير ضررورة إلى فكر كهذا لمن أراد الاعتقاد بإله حقيقي . وقد أثبتت لنا الفلسفة الحديثة بالخصوص أن النسبة والتناسب هما قوام الكينونة . وليت شعري هل النسبة سوى تمييز أو تعدد في الوحدة ؟ فكلما عظم التناسب كانت الحقيقة أتم ونوع الوحدة أسمى . وبالعكس ـ إذا أردنا أن نتصور وحدة بدون تمييز يكون الفكر مجرد خيال وهمي كالنقطة الهندسية لا مقاس لها بل هي فكر مجرد كالصفر . وقد قال هيجل الفيلسوف الشهير إن كائنا من هذا القبيل هو في الحقيقة غير كائن . وأن الوجود والعدم في هذه الحالة سيان . فهل ننسب إلى الله أضعف أنواع الوجود وأفرغها دلالة ونقول أنه كائن غير متميز الوحدة ؟ أم نقول عنه أنه أسمى الكائنات وأرفعها وأغناها ؟ ـ فلا شك إذا أن لوحدة الله تناسبا في الجوهر ولكن ليس مع العالم المحدود أو مع كائن آخر خلافه لأن تناسبا كهذا يجعل المخلوق إلها ثانيا فالتناسب الجوهري الأزلي إذا يجب أن يكون داخليا أي ضمن وحدة الله ذاته . وهذه الوحدة يجب أن تكون ذات تنوع وامتيازات لئلا تكون فكرا مجردا . ولا يجب أن الوحدة الإلهية تكون متممة فقط لبعض المقتضيات العقلية من مثل فرض علة مطلقة غير معلولة وهو منتهى ما وصل إليه علم "الكلام" في الدين الإسلامي على ما يظهر . ونتقدم الآن إلى أبعد من ذلك لنبين كيف أنه بمقدار التمييز أو التنوع في الوحدة تكون تلك الوحدة سامية . وإذا تمكنا من إثبات هذا نكون قد أثبتنا القول بأن الله الذي هو أسمى الكائنات وحدة هو أسماها أيضا في التنوع الأزلي . إذا تمعن الإنسان في الطبيعة (التي يجد فيها ظل الله) يرى أن الأشياء التي لا يكون التنوع أو التمييز في وحدتها ساميا لا يكاد يصح أن تنسب إليها وحدة بمعنى الكلمة . خذ الحجرة مثلا . فهي لها وحدة ما لأنها حجرة . ولكن ما أقل قيمة هذه الوحدة ! وإذا رضختها شطرين لا تكون قد مسست وحدتها (إلا بالاعتبار الحسابي) لأنها لا تزال حجرا وإن تكن قد جزأتها إلى شطرين . ونلتفت الآن إلى الأشياء الحية وهي المعروفة بالمملكة العضوية أو الآلية فنرى الأمور على خلاف عظيم . ولكن هنا أيضا نرى أنه كلما ارتقى التميز أو التنوع كانت الوحدة أسمى. ولنبدأ بأسفل درجات المملكة الحية ولنأخذ النبات مثلا حيث يكون التنوع على أقله والوحدة بسيطة كوحدة الحجر تقريبا . خذ الطحلب مثلا . فهذا النبات يمكن تقطيعه بدون الحاق ضرر بصفته الجوهرية . وكلما صعدنا في سلم المملكة النباتية نرى أنه كلما ازداد تنوع الوحدة كان جوهر حقيقتها أسمى أي أننا (أولا) لا يمكننا أن نجزئها بدون الذهاب بحياتها أي بذاتيتها . (ثانيا) أن كلا منها يختلف عن الآخر كل الاختلاف بحيث أنه متفرد في ذاته . وهذان هما قوام الوحدة الحقيقية أي وجود الذاتية وعدم قبول التجزئة . وهذا يصدق على الأجناس العليا من الأنواع الحية حيث نجد لتلك الأنواع شعورا أو وجدانا ـ نعني بتلك الأنواع المملكة الحيوانية . فنرى أن التنوع قليل جدا في الحيوانات السفلى وبالتالي وحدتها ضعيفة . فمن تلك الحيوانات ما يمكن تجزئته بدون قتله فيعيش كل من تلك الأجزاء مدة ، فوحدة تلك الحيوانات هي من النوع الأدنى لأن التنوع فيها قليل جدا . وكلما قل تنوع الوحدة قلت أهميتها وقيمة اضمحلالها . وكلما صعدنا في سلم التنوع ارتقى الشعور فيتولد فيما بعد العقل وترى التنوع يزداد كثيرا جدا وتزداد معه حقيقة الوحدة الجوهرية وبالتالي يزداد أيضا تفردها وعدم إمكان تجزئتها ويقول علماء الحيوان أن أفراد تلك الأنواع تختلف في الذاتية عن بعضها كما تختلف أفراد النوع الإنساني تقريبا . سل مدير حديقة الحيوانات فيخبرك عن حقيقة هذا . يقول لك أن كل فرد هو فريد في ذاته . ثم إنه لا يخفى أن كل فرد يحتوي على تنوع سام في الوحدة (كما عرفناها) وهذا التنوع هو داخلي . ويبلغ التنوع معظمه في الإنسان حتى يكاد يفوق حد التصور فهو إذا قريب من الكمال في الوحدة . والخلاصة : إن قيمة الوحدة الحقيقية تزداد في المملكة الحية بالازدياد في التنوع الداخلي . فالإنسان هو وحده حقيقة أكثر من نبات اللفت مثلا وهو أسمى منه تنوعا أيضا . وإذا كان ما تقدم ينطوي على مبدأ ما فلا بد أن ذلك المبدأ يساعدنا على البحث في موضوعنا . لأننا إذا عممناه إلى ذلك الكائن الذي فيه قد كملت الحياة والوجدان وهو متفرد مطلقا وغير قابل للتجزئة (وبالاختصار) يتمم جميع شروط الوحدة الكاملة (وذلك الكائن هو الله الواحد الأحد) أفليس من المنتظر أن يبلغ فيه التنوع الداخلي درجة تفوق حد التصور كما أن وحدته تفوق كل وحدة حقيقية كائنة ؟ قلنا إن تنوعه الداخلي يفوق حد التصور لأنه لا يدرك إدراكا جليا ولكن لا شك في كونه حقيقة ناصعة . وهذه صفة التنوع المرموز إليه في عقيدة الثالوث فهو لا يدرك ولكنه حقيقة لا ريب فيها . فالوحدة العظمى المقدسة إذا من حيث هي العظمى يجب أن تتصف بأعظم تنوع يتناول ثلاثة "وجدانات" وهي الأقانيم الثلاثة في الثالوث المقدس إذ أننا لا يمكننا أن نتصور تنوعا أعظم من هذا ولا أن نكتفي بتنوع أقل منه . فبالتالي لا يمكننا أن نتصور وحدة أسمى من هذه . وهي الوحدة التي ننسبها إلى الإله الواحد الأحد المبارك . (1) قد يعترض المسلم بقوله أنه لا يجب تشبيه الخالق بالمخلوق في أية حالة كانت . فإن من مميزات الإله أنه "مخالف" تعالى عن أن يشبه بخليقة يديه . نقول أننا قد بحثنا في هذا الاعتراض بالاسهاب في كتابنا "التنزيه الإسلامي" حيث أثبتنا عقم هذا المذهب أي مذهب المخالفة الذي يجعل الله فكرا منفيا بحيث لا يمكن أن نقول عنه شيئا على الإطلاق . وفضلا عن ذلك فإن المسلم خير من المذهب الذي يذهبه . لأن الله بموجب ذلك المذهب ليس هذا ولا ذاك وأما المسلم فيقول أن الله كائن حي ذو علم وإرادة وهلم جرا فكأنهم بذلك يثبتون له أوجه شبه لا أوجه مخالفة مجردة . ولا فائدة من القول أن لا شبه بين علم الله وعلمنا لأن علمه تعالى يفوق كل علم سواه ولا يمكن أن يقاس . والحق أنه لو لم يكن هنالك شبه فلماذا يدعون العامين باسم واحد ؟ أليس الأصوب أن يتركوا المماحكة ويقولوا أن الله كائن علمه يفوق علمنا إلا أن هنالك أوجه شبه لأنه خلق الإنسان على صورته فيصح إطلاق اسم مشترك على بعض صفات الناس وصفاته تعالى دلالة على وجود تناسب . نعم إن الخوف يقتضي مزيد الحذر ولكن الديانة المسيحية لا تتجاوز الحدود . ففي الأمر الذي نحن بصدده يكون قولنا إننا لا يمكننا أن نكتفي بوحدة مجردة سدا لثغرة عقلية ضرورية بل أسمى وحدة هي ما بلغ التنوع فيها معظمه كما قلنا فأي كفر أو إلحاد في هذا ؟ (2) قد يقول المعترض أن الإسلام يقول بتعدد الصفات كالرحمة والعدل وغيرهما من الصفات الداخلة في حيز الوحدة الإلهية ولكنه ينكر "تقنيم تلك الصفات" إنكارا باتا ولنا على هذا الاعتراض ملاحظات . منها أن تعديد الصفات لا يسد الثغرة التي تكلمنا عنها لأنه عوضا عن أن يقرر أسمى تنوع ممكن تصوره يقرر أضعف تنوع يتصوره الفكر فالصفات في حد ذاتها ليست شيئا وهي فكر مجرد . فالرحمة والعدل وغيرهما من الصفات ليست إلا وجوها مختلفة للعمل الإلهي فيمكن زيادتها أو إنقاصها . وهذا يدلك على كون تعددها ليس متوقفا على حقيقة راهنة كما هي متوقفة على إرادة الناظر إليها وأن ما يطلبه الفكر هو تعدد أو تنوع حقيقي كحقيقة الوحدة نفسها لا تنوع يتوقف على إرادة الناظر إلى ذلك الأمر . أما الملاحظة الثانية فهي أن الديانة المسيحية لا "تقنم" الصفات كما يتوهم المسلمون . وهذا الوهم أي زعمهم أننا نجعل "الآب" موضع العدل مثلا "والابن" موضع الرحمة وهلم جرا خطأ محض قديم العهد في كتب الإسلام يجب إزالته من الأذهان إذ لا أساس له في التوراة ولا في علم اللاهوت . (3) ورب معترض يقول أن تنوع الوحدة لا يكون إلا في الماديات فقط . ولكنا نجد من الجهة الأخرى أن روحانية الكائنات تزداد أطرادا بتنوع كل درجة كلما ارتقينا في سلم الخلائق الحية فغير الحية فالحاسة فالعاقلة . فماذا يمنعنا إذا من القول بأننا عند وصولنا إلى الوحدة العليا ـ أي الله الذي هو روح محض ولا محل للمادة فيه ـ نجد من الممكن إطلاق التنوع على وحدته . على أن هذا التنوع يفوق تنوع سائر الخلائق بدرجة تفوق التصور . وبعبارة أخرى أنه تعالى فائق في تنوعه كما هو فائق في وحدته . ولا شك أن هذا التنوع في الأقانيم أو الوجدانات ينطبق عى المبدأ الذي وضعناه حالة أن التنوع في الصفات المجردة لا ينطبق كذلك . (4) ولقد يقول معترض بأننا متى تركنا عالم الماديات زال من أمام نظرنا عالم الخلائق الآلية وزال معه البرهان المتوقف عليها . والجواب على ذلك ـ لماذا نرفض نسبة "الآلية" إلى الإله ولا نرفض نسبة "الوجود" أو "الحياة" إليه فالوجود صفة يجوز نسبتها إلى أدنى أنواع الأشياء . والحياة هي صفة للخلائق الحية سواء كانت من النوع الأدنى أو الأعلى . ومع ذلك فإننا ننسب كلا الوجود والحياة إلى ذات الله . فلماذا لا ننسب إليها أيضا "الآلية" (الوحدة المتنوعة) وهي تزداد كلما ارتقينا سلم الخلائق الحية ؟ وهذا السؤال يفضي بنا إلى الاعتراض الثالث على عقيدة التثليث المسيحية وهو نسبة التركيب والتجزئة إلى جوهر الله . |