عقيدة الثالوث القويمة |
|
الاعتراض الثالث والرد عليه وإذا قيل أن التثليث يقتضي نسبة التركيب والتجزئة إلى جوهر الله . قلنا كلا . وما يأتي يكفي لدحض هذا الاعتراض . اعلم أن الأشياء القابلة للتجزئة هي التي يمكن تجزئتها بدون ملاشاتها كالحجرة مثلا فإنك تستطيع أن تجزئها إلى شطرين ومع ذلك تظل حجرة كما كانت . وكذلك الآلات الميكانيكية يمكن تجزئتها وتحليل أجزائها بدون ملاشاتها إذ يمكن إعادة تركيبها كما كانت قبلا بدون ملاشاتها أبدا . فترى إذا أن من الأشياء ما يمكن تجزئته بطرق مختلفة بدون ملاشاة جوهرية . أما الأشياء الآلية أو العضوية (انظر الفصل السابق) فإن الحالة فيها تختلف إذ لا يمكن تجزئتها وإنما يستطاع تجزئة مادتها فقط . ويتضح هذا جليا إذا أخذنا زهرة مثلا وقسمناها إلى شطرين فهل يمكن إعادتها إلى زهرة كما كانت ؟ كلا لأننا في الحقيقة لم نجزئها بل لاشيناها . وما يبقى من القطع المائتة لا يسمى زهرة ولا يمكن جمعها معا كما كانت لأن نفس الزهرة قد تلاشت . وكذلك اليد إذا بترناها من الجسد لا تبقى يدا بل هي مجموعة لحم وعضلات وعظام في شكل اليد . ولكنها ليست يدا لأن من شروط اليد أن تكون متحدة بالجسم وأن تتصل بالدماغ بواسطة الأعصاب فتشاطر الجسم كله الحياة . أما القول بأن اليد هي جزء الجسم فهو صحيح وغير صحيح في آن واحد . صحيح باعتبار الشكل أي أن اليد تبقى بشكل يد بعد فصلها عن الجسم . وغير صحيح باعتبار الجوهر أي أنها لا تعود تؤدي وظيفة اليد . فتسميتها "يدا" هو من قبيل تجريد المسمى عن بعض الاعتبارات وترك البعض الآخر . فنعيد القول إذا بأن من الممكن تجزئة المادة باعتبارها غير آلية أو عضوية أما العضوية فلا يمكن تجزئتها مع حفظ كيانها بل لا بد من ملاشاتها فيجوز القول بأن الأشياء الآلية لا يمكن تجزئتها بالمرة بل تقطيعها فقط وإفناؤها . ونفس الأشياء الأرضية الآلية لا يمكن تجزئتها ولا تقطيعها لو كانت غير مادية . أما باعتبار المادة في حد ذاتها فيمكن تقطيعها كما قلنا . أما جوهر الله فغير مادي فهو إذا غير قابل للتجزئة بأي معنى كان من معاني الكلمة . والأشياء الأرضية الآلية إما أن توجد بكمال طبيعتها أو أن تفنى . وليس هناك حالة ثالثة متوسطة كقبول التجزئة كما قلنا . وبما أن الله غير قابل للفناء فلا يمكن أن يوجد إلا بكمال طبيعته ـ أي أنه آب وابن وروح قدس دائما أبدا . وكما رأينا سابقا أن "العضو" يختلف عن "الجزء" كل الاختلاف إذ لا يحيا إلا متحدا بالكل فكم بالحري لا يجوز أن نعتبر الأب والابن والروح القدس أجزاء (وحاشا لله) بل هم أعضاء وحدة متبادلة الارتباط غير قابلة الانفصال . وليس في هذا ما ينافي كون ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بعضها عن بعض بل بالعكس يثبت هذه الحقيقة لأن هذه الأقانيم تكون وحدة الله الكاملة وتحققه لنا ـ ليس كائنا ذا وحدة هندسية عقيمة بل كائنا ساميا كامل الوحدة الحقيقية له المجد إلى أبد الآبدين . والخلاصة أن ذات الله ليس لها أجزاء وإن يكن لها "أعضاء" فلا يمكن تجزئتها . الاعتراض الرابع والرد عليه وهنالك اعتراض رابع على عقيدة التثليث يتعرض له كثيرون من أتباع هذه العقيدة وهو القول بأن التثليث ينزل الإله منزلة "الجنس" ويجعله مؤلفا من ثلاثة أفراد آلهة والعياذ بالله . إن هنالك أمرين يبينان خطأ الذين يبدون هذا الاعتراض . وقبل أن نبينهما يجدر بنا أن ننظر في هذا الاعتراض . فالجنس هو ضرب يعم كثيرين من نوعه . فالإنسان مثلا جنس وهو يعم عمرا وزيدا وعبيدا وهلم جرا . فإذا جعلنا الله جنسا نكون قد جعلنا وحدته وحدة جنسية وأعضاءها الثلاثة آلهة ثلاثة (ونستغفر الله) كما أن عمرا وزيدا وعبيدا هم ثلاثة رجال. وها نحن نذكر الأمرين اللذين أشرنا إليهما : (1) إن الجنس ليس له وجود جوهري على الإطلاق . فهو تجريد أو تعميم يطلق على أفراد كثيرين مرتبطين معا بخواص مشتركة . أما الله فليس تعميما ولا تجريدا بل هو أسمى حقيقة حية فمهما تكن أقانيم الثالوث الأقدس لا يمكن أن تكون أفرادا مرتبة بحسب مثل هذا التجريد أو التعميم وعليه تكون تهمة المسلمين للمسيحيين بأنهم يعبدون ثلاثة آلهة تهمة ساقطة. نعم إن المجادلات الفلسفية قد طالت بخصوص ماهية هذه الأجناس العامة . هل هي تجريد مجرد ألفاظ تشير إلى علاقات مشتركة بين الأعضاء وبعبارة أخرى هل هي أسماء وضعت لتسهيل التنسيق والتبويب ؟ هذا هو مذهب "الاسميين" وقد وافق عليه بعضهم باعتبار وجود الأجناس المحسوس . إلا أنهم حرصوا على حفظ حقيقة معينة بخلاف الفلاسفة "الاسميين" بقولهم أن الجنس هو صورة حقيقية تتولد في الفكر لا مجرد اسم وقد كان هؤلاء الفلاسفة يعرفون بالفلاسفة "التصوريين" . ولقد قال ارسطو بوجوب الاعتقاد بحقيقة وحدة الجنس التي تنطوي عليها اختلافات الأفراد ولذلك دعى اتباع ارسطو الفلاسفة "الحسيين" (أي الحقيقيين) ولكنهم أنكروا أن مذهبهم يتقضي نسبة جوهر للجنس أي أن الجنس وحدة ذات جوهر . وافلاطون هو الفيلسوف الوحيد الذي ذهب هذا المذهب وقال أن هذه الأجناس كالإنسان والحيوان هي حقائق ذات جوهر وأنها تشغل عالما نموذجيا فائق الإحساس وأنها حقيقة كسائر الأشياء الحقيقية بل أكثر من ذلك لأنها الحقيقة الوحيدة وما الحصان أو الرجل الفرد بالنسبة إليها إلا كظل وهو مدين بما له من الحقيقة لما يمثله ويطابقه في العالم النموذجي الفائق الإحساس ولذلك دعي هؤلاء بالفلاسفة "النموذجيين" . على أن هذه مباحث فلسفية بعيدة عن غرضنا الآن ولعلنا نجد الاختلافات المشار إليها شديدة التعقيد لا تستحق العناء الكبير . ومع هذا فإن هذه المناقشات قد جرت في سبيلها سيول الدماء ويطول بنا شرح أسباب تلك الشدة وسبب ذكرنا لهذه الأمور إنما هو أن نبين أن الله الذي هو أسمى الحقائق ليس جنسا يشتمل على أنواع على الإطلاق مهما كان المعنى الذي نؤول به "الجنس" بحسب آراء الفلاسفة المذكورين الذين أشرنا إليهم , إلا إذا استثنينا افلاطون وليس عنده ما يعضد أراءه الغريبة التي هي خيالية أكثر منه فلسفية فلما كان الله لا مجرد اسم أو فكر ولا جوهرا معنويا بل هو أسمى الحقائق الحية لا يمكن أن يكون الإله "جنسا" وبالنتيجة لا يمكن أن تكون أقانيم الثالوث الأقدس "أفرادا" (أي آلهة) لجنس عام (أي الله) وهكذا تكون تهمة تثليث الاله ساقطة . (2) أما الأمر الثاني الذي يظهر لنا فساد الاعتراض فهو أن الجنس (كالإنسان مثلا) مهما بلغت حقيقته من الكمال لا يتأثر أبدا من هلاك فرد من أفراد نوعه الذين يتألف منهم . وبعبارة أخرى إننا يمكننا ملاشاة توما وحسين وحنا وعمروا وزيد وعبيد ومع ذلك يظل الجنس كما كان بدون أقل ضرر يمكن إلحاقه به . وهذا يثبت لنا أن الجنس ليس في الحقيقة وحدة حقيقية حية مرتبطة بوجود أعضائها ولكن هذا ما نراه بكل احترام في وحدة الله الذي هو أسمى كائن حي . فهو واحد في أقانيمه الثلاثة ولا يمكن لأي أقنوم منهم أن يكون منفصلا لأن كلا منهم إنما يوجد متحدا ومرتبطا وكائنا بالآخر . فالآب إذا هو ذات الله الواحد . والابن هو ذات الله الواحد . والروح القدس هو ذات الله الواحد . وبعبارة أخرى أنهم ليسوا ثلاثة آلهة بل هم إله واحد له المجد إلى أبد الآبدين آمين . |