مع أبي الراهب
الكنز الثمين
معايشة الآباء
سيمفونية الخلاص
الاجتهادات المستحدثة
وقفات صامدة
ثروة ذاخرة
لماذا أتشبث بالأرثوذكسية مذهباً؟
ليس لأني رضعت لبنها في طفولتي، أو لأني ترعرعت في بستانها الزاهر في صبوتي،
فحسب، وإنما لأجل ذلك الكنز الثمين الذي عثرت عليه، و تلك الثروة الذاخرة التي
آلت إلينا من تراث آبائنا الأماجد، فوضعت النقط فوق الحروف، في أخطر موضوع شغل
بالي، واحتل مركز تفكيري.
مع أبي الراهب
يوم أن بدأت أحبو في الطريق الروحي، تلقفتني أياد حانية، أحاطتني بدعامات من
أقوال القديسين، لتسند عودي، وتشد قوامي.
كان أبي الراهب يقبع في قلايته النائية، المنعزلة عن الدير، هناك على حدود
الحديقة، تحجبها عن الأنظار غابة من أشجار الجازورين السامقة. وعلى ضوء مصباح
خافت، كنا نجلس داخل هذا الكهف المقدس، إلى ساعة متأخرة من الليل، يقدم لي فيها
أطعمة شهية من أقوال مار اسحق، والأنبا أنطونيوس والقديس مقاريوس.
عشقت نسكيات آبائي، خاصة عندما رأيتها تتحرك أمام ناظري في هدج متواضع، وتهمس
في صوت وادع، وترنو في هدب خاشع. رأيت الروحانية متجسدة في هؤلاء الآباء
الرهبان.
يا لها من باقة نادرة! فو إن كان رداؤها ذا لون واحد، وهو اللون الأسود، ولكن
تنوع طبائعها الروحية هو كتنوع ألوان الطيف في قوس قزح، واختلاف عبيرها،
كاختلاف أحواض الرياحين في أريجها وشذاها.
الكنز الثمين
صرت أطفر في ربوع الدير البديع وكأني أعيش أيام جنة عدن. كان كل ما في الدير
يشدني إليه بقوة. فأخذ ت استكشف كنوز مخابئه ودلفت إلى مكتبته الذاخرة ، وتسمرت
عيناي على كنز يقبع فوق أحد الرفوف، حيث توجد عدة مجلدات كبيرة، وتسللت يدي إلى
إحداها إنها مجموعة أقوال آباء الكنيسة الذين عاشوا في القرون الأربعة الأولى،
قبل أن تنقسم الكنيسة إلى معسكرات وشيع.
ركض قلبي بابتهاج في أعماقي، لقد وجدت ضالتي المنشودة، فكم من آيات في الكتاب
غلق عليّ فهمها، وكم من مواضيع تضاربت بازائها الآراء المحدثة وعسرت معرفة
الحقيقة.
شعرت لحظتها أن باب الرجاء قد انفتح على مصراعيه، وأن نبعاً فائضاً قد تفجر في
برية حياتي القاحلة، بعدما استبد بي الظمأ.
ومن تعطفات الرب الجزيلة أن أرسل لي مجموعة نظيرها لتقيم معي في بيتي،
ولتقاسمني الحياة، وتمدني بعصارة ذخائرها الرائعة.
معايشة الآباء
أحسست أنني دخلت مدرسة الآباء لأتلقى المعرفة الخالية من الزغل. المعرفة
المتعمقة اتحدت بمسحة الروح، على أيدي أساتذة لا ينامون الليل، ولا يتعبون من
الكلام، ولا يغلقون أبوابهم على الإطلاق.
وأحيانا كنت أشعر بأنني حاضر في زمان هؤلاء الآباء، أطوف على كنائسهم، وأجلس
أسفل منابرهم، وأشارك جماهيرهم المحتشدة مشاعرهم.
كثيرا ما أفقت وقد انسابت دموعي بغزارة مع من بللوا أرض الكنيسة بسيول مدامعهم.
وأحيانا كنت أخالهم يملأون عليّ خلوتي بأصواتهم المتجسدة في كتاباتهم. لقد جلست
طويلاً عند أقدام ذهبي الفم أصغي إلى الدرر الغوالي تنساب من بين شفتيه ... وكم
أثرت في وجداني شاعرية مار أفرام السرياني ... وكم هزت كياني رعود أثناسيوس
الرسولي في دفاعه المجيد عن الإيمان ... وكم بهرتني عبقرية ديسقوروس ...
وكم أجبرتني على احترامها شخصية كيرلس عمود الدين بطل مجمع أفسس في مواجهة
هرطقة نسطور الدنيئة.
وكم خلبت لبي فلسفة أوغسطينوس الذي جلس على قمة العالم عندما أحس في ذاته أنه
لا يشتهي شيئاً، ولا يخاف شيئاً ...
سيمفونية الخلاص
أما الكلمات الرقيقة التي عزفت على أوتار قلبي، لتسمعني سيمفونية الحب الإلهي
والخلاص المجيد، فكانت من فم القديس كيرلس الأورشليمي والقديس أكليمندس.
أود أن أكتب تلك الكلمات بماء الذهب، لأنها كم كانت، ولا زالت، غالية وثمينة
لنفسي.
لقد أشبعت جوعي الذي تضورت به سنين عديدة، إذ أوضح القديس كيرلس أن ما تعب فيه
نساك كثيرين بأنواع تقشفات متنوعة، لجلب رضى الله عليهم، قد أتمه السيد المسيح
في لحظة واحدة على الصليب، إذ بهرق دمه الكريم اجتذب رضا الآب على كل من يحتمي
في جنبه المطعون بإيمان بسيط، فقال:
[ما أعجب محبة الله المترفقة فقد قضى الأبرار سنيناً في إرضائه، وما نجحوا في
الحصول عليه خلال هذه السنين الطويلة قد سكبه المسيح عليك في ساعة واحدة لأنك
إن آمنت أن يسوع المسيح رب وأن الله أقامه من الأموات خلصت، وانتقلت إلى
الفردوس بواسطة ذاك الذي نقل اللص، فلا تشك في إمكانية ذلك لأن الذي خلص اللص
على الجلجثة المقدسة بعد ساعة واحدة من إيمانه هو نفسه الذي يخلصك أيضاً عندما
تؤمن]
(N.F.VOL VII P 31 )
أما القديس أكليمندس فقد قال:
[نحن الذين دعينا بإرادته في المسيح يسوع لن نتبرر بذواتنا، ولا بحكمتنا ولا
بفطنتنا، ولا بتقوانا، ولا بأعمالنا التي نصنعها في قداسة القلب، بل بالإيمان
الذي منذ البدء برر به الرب ضابط الكل ، كل الناس له المجد إلى أبد الآباد
آمين]
(Ante N.F. VOL. I. P. 13.)
يا لها من عبارات رائعة، قد فتحت أمامي آفاقا واسعة، ودخلت بي إلى قلب حنان
السيد. فكان لها أصداء عجيبة، ما زالت تتردد في أرجاء كياني ووجداني.
الاجتهادات المستحدثة
إنه بلا شك ضرب من الجنون، إذا ترك الإنسان ميراثاً ثميناً هذا مقداره، ليبذل
محاولات غير مضمونة، عساه أن يحقق ما وصل إليه آباؤه.
ويخطئ من يظن أن الدين علم ينطبق عليه ما ينطبق علي كل العلوم من مبدأ البحث و
الاجتهاد، للوصول إلى جديد في عالم الاكتشافات و الاختراعات.
إن أردنا أن نشبه الدين فمثله كمثل الخمر المعتقة التي لا يصل إلى مستواها أي
خمر جديدة حديثة الصنع. والأمور الروحية كالآلات الموسيقية التي تزداد جودة
كلما تقادمت بها الأيام.
اختبارات الآباء الأول هي رؤية واضحة عن قرب، تشبه تقارير رواد الفضاء عندما
اقتربوا من القمر ليحدثونا عن وجهه الآخر غير المرئي. هذه التقارير بلا شك أصدق
من كل ما كتب عن القمر من فوق سطح الأرض.
فالآباء الذين عايشوا الرسل ، واقتربوا من مجال حياتهم، وسجلوا مقاصدهم عندما
كتبوا أسفارهم، هم أقدر بكثير من كل من يكتب عنهم على بعد آلاف السنين.
أقوال الآباء وتفاسيرهم إذن بمثابة مذكرة تفسيرية لدستور المشرع التي يتحتم على
كل المجتهدين الالتزام بها.
فلا يظن كل مستحدث فكر في العقيدة أنه مصيب فيما يقول، فمن الواضح أنه يسجل
انطباعاته الشخصية، ووجهة نظره الخاصة وقد ينسبها إلى السيد المسيح والآباء
الرسل على أنها هي الحق الخالص والحق بريء منها براءة الذئب من دم يوسف بن
يعقوب.
إني أرجو أن يشرق فجر عهد جديد على المسيحية في كل الربوع لنتتلمذ على أيدي
أقوال آباء الكنيسة الأولى بعد الكتاب المقدس، ويومها تتم الوحدة المبنية على
أساس الإيمان الواحد، والعقيدة الواحدة ، والروح الواحد.
وقفات صامدة
لقد تصدى آباء كنيستي لكل هرطقة لقيطة ، ولكل فكر منحرف، لكي يحفظوا لنا دم
الإيمان نقياً.
هل ينسى العالم وقفة أثناسيوس أمام وحشية آريوس. وهل يستطيع أي باحث أن يطمس
نضاله في مواجهة تلك العواصف التي كادت أن تقتلع أوتاد الإيمان.
كم من متاعب صادف؟
وكم مرة نُفي من كرسي بابويته؟
كم عانى من الجور وانقلاب الموازين حتى حُكم عليه ظلماً وبهتاناً أنه هرطوقي ؟!
يا للغرابة !! الذي تصدى للهرطقة يصبح هو نفسه في منطق الطغاة هرطوقياً !!
كم من مرة طورد وطُلبت دماؤه حتى لم يجد مأوى سوى مقبرة أبيه يحتضن عظامه لعله
يجد فيها الأمان.
لقد قام العالم كله ضد أثناسيوس، ولكنه ثبت على أرض العقيدة الصلبة، ورفع شعاره
الخالد، وصيحته المدوية عبر الزمان (وأثناسيوس ضد العالم )
نعم أن الهرطقات لقيطات. فهن نتاج علاقة غير شرعية بين العقل والفلسفة في مخدع
العقيدة المقدسة. وطوبى لمن يمسك بناتهن ويقتلهن عند الصخرة، صخرة الإيمان
السليم.
لقد وقف الآباء صامدين كالطود أمام هذه الهرطقات الغريبة واستحقوا بصدق كأبطال
إيمان كل تطويب.
هذا أبي ذاك جدي ، وتراث إيمانهم ينير دربي، ويشد عزمي، ويؤكد عهدي... فاضت
شفاه مخلصه بكلمات بسيطة معبرة، قصدت أن أقدمها لك كما هي، وهي نشيد حماسي معبر
عن أصالة الإيمان: