الفصل الثامن السياجات الحصينة
حفظة الأسوار
أساليب رهيبة
ناقضو السياج
زهور في بستان
السياجات الحصينة
ترتفع حول الكروم والبساتين الغناء سياجات عالية وأسوار حصينة، لكي تحمي
الأشجار والأزهار والأثمار.
وإن أكبر عقوبة لكرم هي نزع سياجه وهدم أسواره حتى يصير خراباً، وهذا هو ما
وضحه الرب بقوله "ماذا يُصنع لكرمي وأنا لم أفعله. لماذا إذ انتظرت أن يصنع
عنباً، صنع عنباً ردياً. فالآن أُعرفكم ماذا أصنع بكرمي. أنزع سياجه فيصير
للرعي، أهدم جدرانه فيصير للدوس. وأجعله خراباً" (أش4:5-6).
والكنيسة هي كرمة الرب، وجنته المغلقة. غروسها الباسقة هم بنو الإيمان، الذين
ينهلون من نبع التعاليم الكتابية، ويتغذون بعصارة الاختبارات الروحية، ويسيج
حولهم سور متين يتكون من صف أشجار ملتحمة، هي التقاليد الرسولية، ويدعمه جدار
من الأحجار الصلبة، هي الطقوس الكنسية، يعلوه سياج من الأسلاك الشائكة هي
قرارات المجامع المسكونية.
وهكذا صار لكرم الرب ملامح خاصة تميزه عن كل كرم سواه، وأصبح لجماعة المؤمنين
سمات روحية معروفة، واختبارات شرعية مميزة، وكل من شذ عن الجماعة، أُخرج خارج
الأسوار، ووقف ملاك بسيف متقلب على باب الكرم، ليحرس الطريق إلى شجرة الحياة.
(تك24:3).
حفظة الأسوار
هم حراس الكرم المكلفون بحمايته، والمسئولون عن سلامته، هم رجال الكنيسة
المقامون للعناية بقطيع الرب في إطار هذه الأسوار.
والواقع المرير أن رجال الكنيسة الكاثوليكية قد شابهوا حفظة الأسوار في سفر
نشيد الأناشيد، الذين قالت عنهم العروس "وجدني الحرس الطائف في المدينة،
ضربوني، جرحوني، حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني" (نش7:5).
يالها من مأساة !! حفظة الأسوار، والحرس الطائف للحماية هو نفسه الذي يقوم
بالضرب والتجريح والتشهير!! ومع من يمارس هذه الأفعال الشاذة؟ مع النفس الباحثة
عن السيد المسيح!!
إن زنزانات الباستيل، ومحاكم التفتيش (وهي المحاكم المدعوة "المحاكم المقدسة"
!) التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث عشر ودامت حتى القرن
التاسع عشر،(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص 44-46) قد تركت بصماتها
السوداء علي صفحات التاريخ.
قال أحد المؤرخين:
[كان أهم أغراض محكمة التفتيش إبعاد الناس إبعاداً مطلقاً عن النور الإلهي،
وجعلهم في ظلام دامس، فيما يختص بمشيئة الله في الأمور الروحية حتى بذلك تستمر
سلطة الإكليروس مطلقة]
(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص43)
ولقد أنشأت الكنيسة الكاثوليكية محاكم التفتيش بحجة الحفاظ علي العقيدة
والإيمان من الهراطقة والمنحرفين، ولكنها قد غالت في تصرفاتها فكم من أبرياء
قتلت، وكم من نساء رملت، وكم من أمهات أثكلت، وكم من رضع يتمت...!!
أساليب رهيبة
واليك صورة مرعبة لزوار الفجر ومنتصف الليالي، رجال محاكم التفتيش حفظة الأسوار
كما دونها التاريخ.
[في منتصف الليل البهيم كان الباب يقرع والأمر يصدر للرجل المشبوه، بأن يرافق
رسل الإدارة المقدسة، وكانت الزوجة، وجميع أفراد العائلة يعرفون المعنى المقصود
من ذلك ففي الحال يتولاهم الرعب ويعظم كربهم وحزنهم ويودعون الزوج أو الأب
الوداع الأخير وليس من يجرؤ علي أن يلفظ كلمة واحدة من كلمات الاستعطاف أو
الاحتجاج ...
وكانت المحكمة تنعقد في سرية رهيبة، لا محامون يدافعون عن المتهم، ولا شهود
يواجهون به.]
(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص46)
وأنقل لك لوحة كئيبة لأساليب التعذيب والأحكام البشعة التي تردت فيها تلك
السلطة المقدسة.
[كانت الخطوة الثانية من إجراءات الإدارة المقدسة، التعذيب البدني...
كانت تحكم على المتهمين بالإعدام، وكانت تستخدم وسائل متعددة لذلك، منها آلة
البندول. كان المتهم يُطرح ظهراً على طاولة خشبية، ويُربط ربطاً محكماً في مجرى
محفور في أعلى الطاولة لهذا الغرض. وكان يتدلى فوقه شئ يشبه بندول الساعة، وله
طرف حاد مركب بكيفية تجعله يستطيل إلى أسفل مع كل حركة يتحركها.
وكان المتهم يرى آلة الهلاك هذه تتمرجح فوقه جيئة وذهاباً، والطرف الحاد يقترب
إليه لحظة بعد لحظة، وأخيراً يصل إليه فيقطع جلد وجهه أولاً، ثم يحز رأسه
تدريجياً حتى تنتهي الحياة]
(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص47-49)
هذا هو الحال مع حفظة الأسوار الذين نسوا القصد السامي من وجودهم، وهو خير
المؤمنين، فما كان منهم إلا أن حافظوا على الأسوار، بطريقة أهدروا بها دماء
الكثيرين من الأبرياء والباحثين على النور. فحرموا الناس من الدخول إلى بستان
الروحانيات، والمقدسات الإلهية، واكتفوا بشراسة الحماية عن الأسوار. لقد وقفوا
من خارج فلم يدخلوا، ولم يدعوا الداخلين أن يدخلوا. (مت13:23).
ناقضو السياج
وعلى نقيض ما ذهب إليه الكاثوليك، فعل البروتستانت.لقد رأينا كيف حافظ رجال
الإدارة المقدسة الكاثوليكية على السياجات والأسوار بطريقة شاذة، ولكن رجال
البروتستانت، انتقاماً مما فعل الكاثوليك، قاموا بمعاول ماردة، وفتكوا
بالسياجات والأسوار، بلا رحمة ولا هوادة.
لقد حطموا الطقس، وانتزعوا أشجار التقليد، واقتلعوا أسلاك المجامع المسكونية.
ولم يعلم هؤلاء أنه إذا نُقض السياج، صار الكرم للدوس وانتهى إلى الخراب "أهدم
جدرانه فيصير للدوس. وأجعله خراباً" (أش5:5).
وهذا عين ما حدث، ضاعت معالم الكرم، وصار طريقاً للعابرين، وتعددت الملكيات
الخاصة، فظهرت مئات المذاهب البروتستانتية المتعارضة، في تعاليمها وطرق
عبادتها، والمنشقة بعضها على بعض، وأصبح الأمر بلا رابط ولا ضابط.
وبهذا ضاعت المعالم المميزة للحياة الروحية الشرعية، وفقدت وحدانية الروح
الخاصة بكنيسة المسيح.
وأخطر ما يحدث للبيت هو أن ينقسم على ذاته، فمعنى ذلك هو الخراب السريع، كما
قال رب المجد "كل بيت ينقسم على ذاته يخرب ولا يثبت" (مت25:12).
هاتان هما الصورتان المتناقضتان بخصوص الأسوار والسياجات. أما موقف الكنيسة
القبطية الأرثوذكسية فموقف حكيم يحفظ للعقيدة توازنها.
زهور في بستان
لم تذهب الكنيسة القبطية إلى أحد التطرفين، فلم تهدم الأسوار، وتحطم السياجات،
كما فعل البروتستانت، بل احتفظت بالطقس الكنسي كمعالم مميزة لجماعة المسيح. وفي
نفس الوقت، لم تحجر على عقليات المؤمنين، ولم تفرض على الجماعة كلها طرازاً
واحداً من أساليب العبادة، كما فعل الكاثوليك، بل بحكمة فائقة سمحت بحرية
الحركة داخل السياج العام، فظهرت في داخل الكرم الواحد "مدارس روحية" متنوعة
بحسب ما يتناسب مع الفروق الفردية للأشخاص، وفي نفس الوقت يربط هذه المدارس حبل
واحد، هو رباط الحب، وشركة الروح ووحدة الإيمان، وذات العقيدة.
ولقد أباح رب المجد يسوع نفسه هذا المبدأ في كنيسة الرسل فقد اختار تلاميذه من
عناصر متغايرة، فهناك بطرس الرسول بأسلوبه الحماسي، وهناك أندراوس بروحه
الوادع. فقد جمع بين البركان الثائر، والغدير الهادئ.
فلا غرابة إن وجد في كنيستنا "مدارس روحية" قد تختلف بعضها عن البعض في بعض
النظم، ولكن تجمعها جميعاً سمات مشتركة.
ففي مجال الرهبنة القبطية نجد نظام العزلة في رهبنة أنطونيوس ونظام الشركة في
رهبنة باخوميوس، ورغم هذا الاختلاف، إلا أنه يجمعها سياج واحد، وطقس رهبنة
واحد.
(قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب – جزء 1ص 474)
وفي حقل الخدمة كان فكر ذهبي الفم في جانب، وفكر البابا ثاوفيلس في جانب آخر.
فو إن اتخذ ثاوفيلس موقفاً شديداً ضد ذهبي الفم إلا أن الكنيسة اعتبرت الاثنين
قديسين فأكدت انفتاحها وعد تزمتها، طالما كانت حركة الفكر في إطار العقيدة
السليمة والإيمان المسلم مرة للقديسين.
بل إن سر جمال البستان يكمن في تنوع زهوره بألوانها المختلفة، وروائحها
المتمايزة. فهذه زنبقة ذهبية بطيبها الأخاذ، وتلك سوسنة صافية البياض بشذاها
الزكي، وهذه نرجسة ضاربة إلى الصفرة بأريجها المنعش.
وليس من المعقول أن تصبغ كل الزهور بلون واحد، ويسكب عليها طيب واحد، حتى تظهر
أنها من بستان واحد.
ووجه الاختلاف بين المدارس الروحية في داخل إطار الأرثوذكسية، وبين الطوائف
البروتستانتية، أن هذه الأخيرة لا يربطها سياج واحد، بل بلغ التضارب بين شيعها
حد التناقض. أما المدارس الروحية فهي متحدة في العقيدة والطقس، وتعتنق نفس
التعاليم، وتتمسك بذات التقليد الرسولي، أما التمايز بينها فهو في أسلوب
الممارسة، بحسب ما يتفق مع حياة كل فرد، لا في جوهر التعليم.
وبهذه الحكمة الرشيدة حفظت الكنيسة السياج قائماً، ليحمي للمؤمنين ثماراً شهية،
وأزهاراً يانعة، وأشجاراً وارفة، واختبارات متمايزة على ممر الأجيال.
|