لقد حفر رب المجد يسوع قنوات سبع، لتنساب فيها مياه نهر النعمة الفائضة، محملة
بطمي البركات المخصبة، لينهل منها المؤمنون بسر إيماني، لا تستسيغه العقول
الغلفاء، ولا تدركه القلوب غير المختونة.
هذه القنوات السبع، هي أسرار الكنيسة السبعة.
ثلوج متجمدة
لقد احتفظت الكنيسة الكاثوليكية بقدسية هذه الأسرار، إلا أنها جمدت مياهها في
قنواتها، حتى أصبح الاحتفال بها من باب الممارسة الروتينية، دون سيولة نعمة، أو
انسكاب حياة، وإنما في جمود طقس، وشكلية عبادة.
ولقد سلكت مسالك عجيبة تختلف عما تسلمته الكنيسة الأولى عن الرسل. فحرمت
المؤمنين من سريان نعمة دم المسيح في عروقهم إذ قصرت التناول على أقراص الفطير
دون الدم. (راجع علم اللاهوت –إيغومانوس ميخائيل مينا – الجزء الثالث ص 564).
وثمة تعليم آخر وهو تأخير سر المسحة المقدسة إلى سن معينة. (نفس المرجع السابق
ص562).
والأمر الغريب حقاً هو السماح للكهنة أن يعمدوا الجنين في بطن أمه. (نفس المرجع
السابق ص 568).
أما الهوة السحيقة التي تردى فيها الكاثوليك، فهي قصر سر الكهنوت على
المتبتلين، وتحريم الزواج على الإكليروس (المرجع السابق ص565)، خلافاً لما كان
عليه رسل المسيح، فمعلمنا بولس الرسول يقول:
"ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل واخوة الرب وصفا (الذي هو
بطرس)" (1كو5:9).
فلو وجد من هو نظير بولس الرسول في حب البتولية، إلا أن ذلك ليس في إمكان
الجميع. فأصبح، بلا شك، هذا الشرط عبئاً ثقيلاً على كاهل معظم هذه الطغمة.
ردود الفعل
وفي اعتقادي أن هذا الأمر – أي حرمان الإكليروس من الزواج – لعب دوراً خطيراً
في أعماق مارتن لوثر الكاهن الكاثوليكي، الذي كان يعاني من المحاربات الشديدة
التي أوصلته إلى اليأس قبل ثورته والدليل على ذلك، أنه ما أن قام بالثورة على
النظام الكاثوليكي حتى أعلن زواجه من الراهبة كاترين.
(حياة لوثر – موريسون ص 108).
فلو كان التبتل أمراً محبباً لقلب لوثر، لفضل أن يظل كبولس الرسول بتولاً
محافظاً على نذره. أما وأنه تزوج وأنجب ستة أولاد (حياة لوثر – ص 114) لدليل
واضح على ما كان يختلج في نفسه نتيجة للقيد الحديدي الذي كان يكبله.
فكان للمغالاة الكاثوليكية ردود فعل عكسية من الجانب البروتستانتي الذي طمس هذه
القنوات لجمود مياهها، وعوض أن يشيعوا فيها حرارة الروح لتعود سيولتها
وعذوبتها، ألقوا فيها الأحجار الغليظة، وردموها بالتراب، ومحوا من الخريطة
معالمها.
وإن كانوا قد عادوا فنبشوا من جديد، ولكنهم حفروا مجريين غير شرعيين، أطلقوا
عليهما "رسم المعمودية"، "وفريضة المائدة" ولا تسيل منهما مياه على الإطلاق، إذ
أنهما ليسا سرين يفيضان بأية نعمة، وإنما هما مجرد رمزين للذكرى لا أكثر ولا
أقل.
شيكات النعمة
أما كنيستنا الخالدة، فقد حفظت المسلمات المقدسة. وبينما هي تقدس الأسرار
السبعة، على خلاف ما ذهب إليه البروتستانت، إلا أنها لا تعتبرها غايات في حد
ذاتها، كما فعل الكاثوليك.
ولقد اعتبرت كنيستنا الأرثوذكسية الأسرار المقدسة، كأنها شيكات نعمة، على بنك
السماء، مختومة بالدم، وموقع عليها بإمضاء الروح القدس، ليتسلم المؤمن بيد
الإيمان كل ما يطلب من رصيد البركات، التي باركنا بها الله الآب، في شخص ابنه
يسوع المسيح. (أف3:1).
الحلقة المفقودة:
هناك حلقة مفقودة بين الفكر الكاثوليكي، والفكر البروتستانتي فقد نادى
البروتستانت بأن الخلاص هو بدم المسيح المهرق على الصليب مباشرة، ولا حاجة بعد
إلى أسرار الكنيسة، لأنها بلا فائدة، وليس لها قيمة مطلقاً (الكنيسة المتغربة –
برودبنت ص184) بل اعتبروها "اختراع دخل المسيحية من خليط بين الوثنية واليهودية
والتعاليم الفلسفية" (نفس المرجع السابق ص 8).
في حين أن الفكر الكاثوليكي ذهب إلى أن أسرار الكنيسة هي كل شئ، وبدونها لا
يحصل الإنسان على شئ، أما الصليب ودمه، فإنما كانا لمحو خطية آدم، مما دعى
المعارضين (حسب تعبير أحدهم) "أن يدوسوا هذه الأسرار بأقدامهم" (نفس المرجع
السابق ص 510).
وبين النقيضين يقف الفكر في حيرة ...
فإن صليب المسيح، بلا شك، هو سر الخلاص.
كما أن أسرار الكنيسة، بلا جدال، لازمة للخلاص.
فكيف يمكن التوفيق بين الفكرين المتعارضين؟
وهنا تعطي الكنيسة الأرثوذكسية الحل السليم لهذه المعادلة الصعبة. فالصليب هو
الشمس الوضاءة بنور النعمة، وأسرار الكنيسة هي الأشعة التي تحمل نور الخلاص،
وحرارة الروح إلى البشرية جمعاء.
فالأسرار الكنسية تستمد فعاليتها من قوة دم الصليب. دم الصليب إذن هو النعمة،
والأسرار هي وسائط النعمة.
وهكذا قدمت الكنيسة الأرثوذكسية للمعسكرين المتعارضين فرصة لقاء على أرض فكر
سليم.