مقدمة لسفر لوقا

كتب متى إلى اليهود، ومرقس إلى الرومان، أما لوقا وهو من أصل أممي فقد وجه إنجيله وأيضا سفر أعمال الرسل إلى شخص يوناني اسمه ثاوفيلوس، ومعنى اسمه "صديق الله". ومع أن لوقا لم يكن واحدا من الاثني عشر رسولا، إلا أنه كان مرتبطا ارتباطا وثيقا برحلات بولس التبشيرية وكان يدعى الطبيب المحبوب (أعمال 10:16؛ 6:20؛ 27:24؛ 1:27؛ 16:28؛ كولوسي 14:4؛ 2 تيموثاوس 11:4؛ فليمون 24:1).

وقد نادى لوقا بإنجيل شامل "لجميع الناس" وسجل بشارة الملاك القائل: ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب (لوقا 10:2). وقد تكلم عن يسوع بصفته نور إعلان للأمم (لوقا 32:2). وقد قدم يسوع بصفته أكثر من مجرد المسيا لليهود وذلك بأن ذكر علاقته الإنسانية بكل البشرية.

فلقد تتبّع لوقا سلسلة نسب الرب يسوع من خلال العذراء مريم حتى 4000 سنة مضت إلى خلق آدم، ابن الله (لوقا 38:3)، وهذا يكشف خدعة نظرية التطور.

ومن بين الأناجيل الأربعة، لوقا وحده يذكر الأرملة الأممية التي من صيداء ونعمان السرياني (لوقا 26:4-27)، وعبد قائد المئة الروماني الذي كان عزيزا عنده (لوقا 2:7). وتوجد أكثر من 50 حادثة في إنجيل لوقا غير مذكورة في أي من أناجيل متى أو مرقس أو يوحنا.

إن الإنسانية الكاملة للرب يسوع معلنة بأكثر تفصيل في إنجيل لوقا عن سائر الأناجيل. وبذكر ولادته وفترة صباه، يؤكد لوقا حقيقة كون يسوع ابن الإنسان وأيضا ابن الله المولود من العذراء، وبالتالي أنه آدم الكامل (1 كورنثوس 22:15،45). ولكونه ابن الإنسان، يقدر يسوع أن يفهم ضعفاتنا وأن يشعر باحتياجاتنا. وتأتي عبارة "ابن الإنسان" في إنجيل لوقا 26 مرة على الأقل. وفي نفس الوقت أقر لوقا بألوهية الرب يسوع الكاملة - أنه أتى كالمخلص (لوقا 47:1؛ 11:2) وكالفادي (68:1؛ 38:2؛ 21:24).

وقد أعلن لوقا اعتماد الرب يسوع إنسانيا على الآب في الصلاة (21:3؛ 16:5؛ 12:6؛ 28:9-29؛ 21:10؛ 1:11؛ 17:22،19؛ 34:23،46). وللتأكيد على الأهمية القصوى للصلاة بالنسبة لأتباعه، فإن لوقا وحده يذكر المرة التي فيها طلب منه تلاميذه قائلين: يا رب علمنا أن نصلي (لوقا 1:11). وقد سجل لوقا مثل صديق نصف الليل الذي قال: يا صديق، أقرضني ثلاثة أرغفة (لوقا 5:11-13)؛ وأنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل (لوقا 1:18)؛ ومثل قاضي الظلم والأرملة (1:18-8) الذي نتعلم منه أن نستمر مصلين حتى نحصل على الإجابة؛ ومثل الفريسي والعشار اللذين صعدا إلى الهيكل ليصليا والذي نتعلم منه ضرورة التواضع في الصلاة (لوقا 9:18-14). وفي إنجيل لوقا وحده نقرأ القول: اسهروا إذا وتضرعوا في كل حين (لوقا 36:21)؛ وقول الملاك: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت (لوقا 13:1)؛ وعن حنة التي كانت تخدم الرب عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا (لوقا 37:2).

وقد وضح لوقا أن الهدف الذي لأجله ترك يسوع السماء وتجسّد هو لكي يطلب ويخلص ما قد هلك (لوقا 10:19).

اقرأ لوقا 1

أرسل الله الملاك جبرائيل ببشارة خاصة إلى مريم التي من الناصرة، قائلا لها: ها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه (لوقا 28:1-32).

ويسجل لوقا أن مريم اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية (لوقا 29:1). وعندما أخبرت يوسف، اضطرب هو أيضا (متى 19:1) إلى درجة أنه فكر في الطلاق لإنهاء ارتباطه الشرعي بمريم. بعد ذلك نقرأ أنه في تلك الأيام قامت مريم وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلمت على إليصابات (لوقا 39:1-40). كان زكريا الكاهن هو زوج إليصابات قريبة مريم. ويقال أن بيتهما كان يقع في عين كرم، في سهل محاط بالجبال، على بعد أربعة أو خمسة أميال إلى الجنوب الغربي من أورشليم. كانت مريم تعيش في الناصرة، والتي كانت تبعد 70 ميلا شمال أورشليم. فيبدو أن هذه الفتاة اليهودية الصغيرة قد سافرت وحدها حوالي ثلاثة أيام لكي تصل إلى بيت أليصابات.

وعندما وصلت إلى هناك، سلمت على أليصابات، وفي الحال امتلأت إليصابات من الروح القدس. وصرخت بصوت عظيم وقالت: مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ؟ (41:1-43). وكم أبهج ذلك قلب مريم! فبدلا من الشك، كان هناك إعلان معجزي وتأكيد من إليصابات التي شعرت بالامتياز العظيم وفي نفس الوقت بعدم الاستحقاق أن تأتي إليها أم المسيا.

بعد ذلك، تكلم الروح القدس من خلال مريم، فقالت: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي (لوقا 46:1-47). هذه صلاة، ولكنها أسمى أنواع الصلاة، لأنها لا تطلب شيئا. فهي فقط تبتهج متعبدة وشاكرة: لأنه نظر إلى اتضاع أمته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني. لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس! ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه (لوقا 48:1-50). وكما غيرت البشارة حياة مريم، كذلك فإن رسالة الإنجيل العظيمة تهدف إلى تغيير حياتنا: وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله (يوحنا 12:1) - هذا ينعش كياننا الداخلي لكي نمتلئ بالحمد.

وبعد ثلاثة شهور، إذ كان قد مر على زكريا تسعة شهور وهو لا يستطيع أن يتكلم، امتلأ زكريا من الروح القدس وتكلم قائلا: مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه! وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه ... لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم (لوقا 67:1-77).

شواهد مرجعية: لوقا 17:1 (انظر ملاخي 6:4)؛ لوقا 50:1 (انظر مزمور 17:103)؛ لوقا 53:1 (انظر مزمور 9:107)؛ لوقا 71:1 (انظر مزمور 10:106)؛ لوقا 76:1 (انظر ملاخي 1:3)؛ لوقا 79:1 (انظر إشعياء 1:9-2؛ 8:59).

أفكار من جهة الصلاة: اسهروا وصلوا لكي تحسبوا أهلا للوقوف أمام الرب يسوع المسيح (لوقا 36:21).

اقرأ لوقا 2 -- 3

كان الناموس يتطلب حضور جميع الرجال اليهود في ثلاثة أعياد رئيسية كل سنة إلى أورشليم وهم: عيد الفصح والذي يشمل أيضا عيد الفطير؛ وعيد الخمسين؛ وعيد المظال (تثنية 16:16؛ لوقا 41:2). وكان عيد الفصح، الذي أتي باليهود الأتقياء أمثال مريم ويوسف إلى أورشليم، هو التذكار لدم خروف الفصح الذي به نجا بنو إسرائيل من العبودية في مصر منذ مئات السنين. ولكن بالنسبة ليسوع، الذي كان قد بلغ من العمر 12 سنة أي بداية الرجولة، فلقد كان يذكره بذبيحته العظمى الآتية - أي موته على الصليب من أجل خطايا العالم. وهذا يشرح سبب اهتمامه الخاص بأن يكون فيما لأبيه - جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم (لوقا 46:2).

وأثناء الاستعداد للرجوع إلى الناصرة، ظنت مريم ويوسف أن يسوع مع الصبية الآخرين الموجودين في القافلة. وحتى هذه اللحظة من حياة يسوع - لكونه كاملا في كل شيء - لم يكن لدى يوسف ومريم أي سبب لكي يشكوا في طاعته الكاملة وخضوعه لهما وتعاونه معهما. وظلا يعتقدان أنه بين الرفقة إلى أن حل المساء واكتشفا أنه ليس معهما.

فقالت له مريم: لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين (لوقا 48:2)، ومن الواضح أن مريم أرادت بهذه الكلمات أن تشير إلى الإهمال والطياشة من جانب يسوع. ولكن هذا لم يكن صحيحا. فإن سبب بقائه في الهيكل هو أنه قد أصبح الآن مسئولا عن عمل مشيئة أبيه الحقيقي. فأجابهما قائلا: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟ (لوقا 49:2-50). إن هذا الولاء يتفق مع شهادته فيما بعد عندما قال: لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني (يوحنا 30:5).

كان هذا هو السلوك النموذجي ليسوع في كل مراحل حياته - أن يعمل مشيئة أبيه. إن إخلاصه في إتمام عمل الآب هو الذي جذبه إلى الهيكل، وفي نفس الوقت فإن خضوعه لمشيئة أبيه هو الذي جعله يعود إلى الناصرة ويكون طائعا لوالديه الأرضيين (لوقا 51:2). فالشخص الذي له تخضع كل الأشياء كان خاضعا لوالديه الأرضيين.

في عصرنا المتمرد هذا، نجد عددا متزايدا من الشباب لا يخضع لسلطة الوالدين المرتبة من الله والتي هي أول وصية بوعد (أفسس 2:6). وأيضا آباء عديدون يتمردون على السلطة الموضوعة عليهم في العمل أو الكنيسة أو المجتمع. هؤلاء الأشخاص ينخدعون إذ يظنون أنهم يستطيعوا أن يستقلوا عن السلطة المرتبة من الله. وبهذه الطريقة انزلق الكثيرون من تحت حماية الله وبركاته ظانين أنهم قد اختاروا الحرية والاستقلال. ولكن مثل هذه التصرفات لا تجلب سوى الإحباط والحزن والألم.

لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة (رومية 1:13-2).

شواهد مرجعية: لوقا 23:2 (انظر خروج 2:13،12)؛لوقا 24:2 (انظر لاويين 11:5؛ 8:12)؛ لوقا 32:2 (انظر إشعياء 6:42؛ 6:49)؛ لوقا 4:3-6 (انظر إشعياء 3:40-5).

أفكار من جهة الصلاة: إن الله يريد أن يتمجد من خلالك (مزمور 10:46).

اقرأ لوقا 4 -- 5

إن المعجزات العجيبة والخدمة التي أجريت في المدن القريبة من بحر الجليل جعلت شهرة يسوع تذيع في كل منطقة الجليل (لوقا 16:4). بعد ذلك جاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت (لوقا 16:4). كانت هذه هي عادته طوال حياته.

وفي خدمة السبت كان يُقرأ درسين. الأول يؤخذ دائما من أسفار موسى الخمسة، والثاني من الأنبياء. وبالطبع دُعي يسوع للكلام حيث أنه كان معروفا في بلده وذائع الصيت كونه المعلم والشافي. فقام ليقرأ. فدُفع إليه سفر إشعياء النبي ... روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين ... وأكرز بسنة الرب المقبولة (لوقا 16:4-21؛ إشعياء 1:61-2).

ولم يكن بالمصادفة أن الكلمات الافتتاحية التي قرأها الرب كانت تحتوي على إشارة واضحة للأقانيم الثلاثة: الروح القدس، والآب، وهو نفسه الابن الممسوح. إنه يقدم البشارة للمساكين، والشفاء للمنكسري القلوب، والحرية من الخطية للمأسورين، والبصر للذين يتخبطون في الظلام، والحرية لجميع المأسورين بقيود شيطانية. لقد كان الطبيب العظيم بنفسه في وسطهم، مستعدا أن يحرر جميع المنسحقين (لوقا 18:4).

فذهل السامعون، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه (لوقا 20:4). وبعد أن أغلق الكتاب، قال لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم (لوقا 21:4). فتعجبوا لكلماته المباركة وعرفوا أنه يتكلم عن نفسه كالمسيا الذي سبق وأنبأ عنه إشعياء.

ولكنهم كانوا يتوقعون أن يكون المسيا ملكا غالبا مثل داود، يحررهم من حكم الرومان الطغاة، ويُدخلهم إلى عصر ذهبي ومزدهر. فتخيّلْ مدى تعجب الجمع عندما أخبرهم يسوع أنه هو، ابن النجار، المسيا الذي ينتظرونه.

وإذ شعر الرب بأفكار الازدراء وعدم الإيمان لديهم، قصد أن يذكرهم بأنهم إذا رفضوه فإنه سيرفضهم بسبب عدم الإيمان - تماما كما رفض اليهود بسبب عدم إيمانهم - في أيام إيليا في الوقت الذي فيه حصلت امرأة فينيقية تعيش بالقرب من صيداء على بركة وعظيمة (1 ملوك 9:17-24)، وحصل نعمان السرياني الأبرص على شفاء من برصه (2 ملوك 1:5-14). لقد كان المسيا يمدح رجلا سريانيا وامرأة صيدونية - وكلاهما أمميين. فقام الجمع كرجل واحد من وسط خدمة العبادة وأمسكوا المعلم محاولين قتله بإلقائه من فوق حافة الجبل (لوقا 29:4). أما هو فجاز في وسطهم ومضى (لوقا 30:4). وفي حدود علمنا فإنه لم يعد مرة أخرى إلى الناصرة.

إن عدم الإيمان يحد من فرصة تحقيق المعجزات. فإن الله يعمل عندما يكون الشعب مؤمنا به. لأن الشك وعدم الإيمان الذي أظهره أهل الناصرة كان يتناقض على خط مستقيم مع الثقة البسيطة التي أبدتها أرملة صرفة صيداء والطاعة التي تحلى بها نعمان الأبرص.

ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة.. وتعجب من عدم إيمانهم (مرقس 5:6-6).

شواهد مرجعية: لوقا 4:4 (انظر تثنية 3:8)؛ لوقا 8:4 (انظر تثنية 13:6)؛ لوقا 10:4-11 (انظر مزمور 11:91-12)؛ لوقا 12:4 (انظر تثنية 16:6)؛ لوقا 18:4-19 (انظر إشعياء 1:61-2)؛ لوقا 14:5 (انظر لاويين 49:13).

أفكار من جهة الصلاة: أطع الرب واستمر بالصلاة والشكر على كل شيء (1 تسالونيكي 17:5-18).

اقرأ لوقا 6 -- 7

عندما نتعامل مع الناس، فإننا بالطبع نلاحظ سلوكهم ونفهمه على حقيقته. فليس هذا هو الذي تكلم عنه يسوع عندما قال: لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ ... يا مرائي! أخرج أولا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى الذي في عين أخيك (لوقا 41:6-42). فلم يقل يسوع أن القذى غير موجود، ولا أننا لا ينبغي أن نتخذ إجراء بخصوصه. بل قال أننا يجب أولا أن نعتني بأمر الخشبة التي في عيننا، وبعد ذلك فإننا سنبصر جيدا أن نخرج القذى الذي في عين أخينا. لجميعنا أخطاء، والطريق إلى التواضع الحقيقي هو أن نعترف بخطايانا ونتعامل معها أولا.

إننا مسئولون عن اكتشاف القذى؛ ولكننا يجب أولا أن نضع في اعتبارنا احتمال وجود الخشبة وأن نراجع موقفنا من الخاطئ ومن الخطية. فهل لنا روح داود الذي قال: جداول مياه جرت من عيني لأنهم لم يحفظوا شريعتك (مزمور 136:119)؟

إن روح الاهتمام هذه تختلف تمام الاختلاف عن روح أولئك الذين يتجاهلون أخطاءهم وسقطاتهم الشخصية وفي نفس الوقت ينتقدون بشدة سلوك الآخرين، وينسبون تصرفاتهم إلى الدوافع الشريرة، ويكررون كلام المذمة مع المبالغة فيه في كثير من الأحيان، ويتلذذون بإدانة الآخرين. فإننا نميل إلى الحكم على أنفسنا بناء على نوايانا وإلى الحكم على الآخرين بناء على أخطائهم.

إن انتقاد الآخرين هو غالبا من أعمال البر الذاتي، فهو يهدف إلى الإعلاء من شأن الشخص وفي نفس الوقت الحط من شأن الآخرين. بل إنه قد يكون نابعا من رغبة شيطانية في تحطيم الآخر. فعندما نشعر في داخلنا بأفكار رديئة تجاه شخص ما فيجب أول كل شيء أن نصلي قائلين: "يا رب عالج أفكاري". فإن خشبة البر الذاتي هذه وإهمال الصلاة من أجل رحمة الله ومحبته لرد نفس الشخص الذي أخطأ هي التي تكلم عنها الرب قائلا: أخرج أولا الخشبة من عينك (لوقا 42:6). إن الحب الحقيقي هو الذي يصل إلى الإنسان الساقط لكي يعيده إلى الشركة. وهذا يتم بلطف، ولكن بحزم، في محبة الله. وبصفتنا تلاميذ للمسيح، يجب أن يظهر فينا جليا نوع الحب الذي قال عنه يسوع أنه يحقق الناموس كله.

إننا جميعا معرضون للتسرع في وضع الاستنتاجات بدون أن نصغي ونعتني بجميع التفاصيل. ولكننا مسئولون عن رد نفوس الآخرين بروح الوداعة، ناظرين إلى أنفسنا لئلا نجرب نحن أيضا (غلاطية 1:6).

من أعجب الأمور لدى الطبيعة البشرية هو القدرة المذهلة على إساءة فهم أفكار الآخرين وتصرفاتهم. والشخص الانتقادي لا تفوته أدق التفاصيل بهدف تصيد الأخطاء. والمراؤون المحترفون يستطيعون أن يستخرجوا أخطاء من أي شيء يقوله أو يفعله الشخص الذي يريدون أن يحقروا من شأنه. فإن القذى يكبر في نظرهم ويصبح مثل الخشبة، بينما يتجاهلون جميع المحاسن الأخرى والفضائل الموجودة في الشخص الذي يحكمون عليه.

إن الذين يسرعون في التكلم بالنميمة الرديئة إلى الآخرين هم بلا شك يضمون أنفسهم إلى الشيطان، المشتكي على إخوتنا ... الذي يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارا وليلا (رؤيا 10:12).

شواهد مرجعية: لوقا 22:7 (انظر إشعياء 1:61)؛لوقا 27:7 (انظر ملاخي 1:3).

أفكار من جهة الصلاة: سبح الرب في الصلاة وبالترنيم لأن كلمته نقية وأعماله حق (مزمور 2:33-4).

اقرأ لوقا 8 -- 9

أراد الرب يسوع أن يضع إخلاص أحد أتباعه "المزعومين" موضع اختبار عندما قال له واحد: يا سيد أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه (لوقا 57:9-58). فلقد أراد يسوع أن يشير إلى هذا الرجل بأنه سيواجه العديد من المشقات إذا قرر أن يتبعه.

وعندما قال الرب يسوع أن ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه، كان يريد أن يقول أنه ليس مرتبطا بأي ممتلكات أرضية. فليس لديه مرتبا مضمونا، ولا علاوات، ولا حوافز، ولا تأمين، ولا معاش. إن الثعالب وطيور السماء لها أماكن للحماية والأمان، أما هو فليس له أي موارد بشرية مضمونة.

وكالشاب الغني - فعلى الأرجح - أن وضع هذا الرجل كان أعلى من المتوسط بقليل. فإن حياته الأدبية والدينية كانت بلا لوم. ومع ذلك، أثبت أنه مجرد مثل آخر من الأمثلة التي تبين أن الثروة والمركز لا يمكن أن يعطيان الشبع الحقيقي.

وقال آخر أيضا: أتبعك يا سيد ولكن ائذن لي أولا أن أودع الذين في بيتي. فقال له يسوع: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله (لوقا 61:9-62). فالرب لم يقبل المتطوعين الذين كانوا مستعدين أن ينضموا إليه في "الأوقات المناسبة لهم" أو بحسب شروطهم الخاصة. فإن أعذارهم دلت على أن القلب منقسم وأنه توجد أشياء أخرى تشغل المكان الأول. كما دلت أيضا على عدم الرغبة في تحمل تكلفة دعوته العليا. كانت تنقص هذا الرجل "العين البسيطة" والولاء للمسيح الذي تتضاءل بجانبه جميع اهتمامات العالم. كانت محبة يسوع هي ما دفعه لاتخاذ موقف الحزم في كلماته. فلم يكن يسوع يسعى إلى الشهرة من خلال زيادة العضوية أو إحصاء عدد المتجددين.

وما أبعد الفرق بين الطريقة التي تعامل بها يسوع مع هذا الموقف وبين الطريقة التي كانت بعض لجان كنائسنا ستتعامل بها مع هذا الإقبال المشجع. فعلى الأرجح أننا كنا سنبتهج بمثل هؤلاء المتطوعين. ولكن يبدو أننا نحتاج، كما في أيام جدعون، أن نعيد النظر في الجموع الكثيرة وننتقي الأقلية منها - التي لديها استعداد للعمل. يا للأسف، إننا نعيش في زمن الإحصائيات، ونشعر أنه يجب علينا أن نقدم تقارير جيدة على صفحات الكتب!

كان الأتباع الثلاثة "المزعومون" متوهمين إذ كانوا يحلمون بحياة سهلة ومريحة، في حين أن تلاميذ يسوع عليهم أن يسيروا يوميا حاملين الصليب وسط صعوبات كثيرة.

إن تكلفة التلمذة قد حرمت الكثيرين من إتمام أعظم الإنجازات الروحية التي أرادها الرب لهم، لأنه لم يكونوا مستعدين أن ينكروا الملذات والاهتمامات وأي شيء آخر يتعارض مع تحقيق أهدافهم في الحياة. ولكن، القليلون الذين كانوا حقا على استعداد أن يضعوا المسيح أولا في قراراتهم سيكتشفون أن مكافأة إنكار الذات تفوق بكثير جميع الطموحات الأرضية الزائلة.

هل يوجد شخص ما في حياتك أو شيء ما في قلبك يمنعك من إعطاء المكان الأول للمسيح ولكلمته ولإرادته؟ إن المشفقين على ذواتهم وذوي الرأيين يخدعون أنفسهم معتقدين بأنه يوجد وقت آخر مناسب يختارونه لأنفسهم.

إن دعوة الرب للمجيء إليه هي لكي يعطينا حياته. وكلما حرصنا على قراءة كلمته باهتمام والإصغاء إلى ما يقوله الروح القدس، كلما تضاءلت الطموحات الزمنية والمقاييس البشرية وفقدت أهميتها.

فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها (متى 25:16).

شواهد مرجعية: لوقا 10:8 (انظر إشعياء 9:6).

أفكار من جهة الصلاة: ادع الرب، فسيسمعك (إرميا 12:29).

اقرأ لوقا 10 -- 11

بعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضا وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعا أن يأتي. فقال لهم: إن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده. اذهبوا، ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب (لوقا 1:10-3).

لقد كانت التعليمات التي أعطاها لهم شبيهة جدا بتلك التي أعطاها للاثني عشر (أصحاح 9). فلقد حذرهم من أنهم لن يكونوا دائما مقبولين وأنهم في الغالب سيواجهون مقاومات. وهو بنفس الطريقة يرسلنا نحن أيضا.

إن معجزة الخلاص تهيئنا للمساهمة الفعالة في توصيل الأخبار السارة (الإنجيل) إلى الآخرين. وأي بيت دخلتموه فقولوا أولا سلام لهذا البيت [أي ليكن في هذا البيت تحرير من كل المآسي التي تنتج عن الخطية] ، فإن كان هناك ابن السلام يحل سلامكم عليه، وإلا فيرجع إليكم (لوقا 5:10-6).

وكأتباع المسيح - كحملان في وسط ذئاب - يجب أن تظهر علينا وداعة المسيح إزاء عداوة الناس.

إن صنع السلام هو من العلامات المميزة لأتباع ملك السلام (إشعياء 6:9). فطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون (متى 9:5). عندما نتحلى بصفات الروح المسالمة، سيكون هناك مجهود طبيعي وفعال من أجل تقديم شخص المسيح الذي جاء ليضع سلاما في قلوبنا.

هؤلاء هم الذين يعالجون الانقسامات، ويبذلون كل جهد من أجل تصحيح ما فسد. ولكن هذا السلام لا يكون على حساب التفريط في الحق الكتابي. وأما الحكمة التي من فوق فهي أولا طاهرة ثم مسالمة مترفقة (يعقوب 17:3). إن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس (رومية 18:12).

ومع ذلك، لا يجب أن نندهش إذا صادفنا مقاومة، لأنه قال يسوع: إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم (يوحنا 19:15-20). لكننا كما فعل المسيح، نحتمل الصليب مستهينين بالخزي (عبرانيين 2:12)، وذلك لأننا نرى ما هو أبعد من الصليب، أي الإكليل.

إضافة إلى ذلك، فإن الاضطهادات تكون عادة سبب بركة لنا إذ تحفظنا من خطايا معينة كان من الممكن أن نقع فيها. والأكثر من ذلك، ان الشيطان يبغض المؤمن الأمين لسيده. على سبيل المثال، نقرأ عن استفانوس أنه رجم، وبطرس ويوحنا أنهما ألقيا في السجن، ويعقوب قطع رأسه - كل هذا من أجل ملك السلام الذي جاء ليؤسس السلام بين الناس (لوقا 14:2).

فبدلا من أن نتحطم أو نشكو من عداء العالم الديني أو العلماني، فإننا نبتهج بسبب الشرف العظيم الذي نحصل عليه إذ نتألم من أجل اسمه. لقد قال يسوع، أنه بسبب ولائنا وطاعتنا ورفضنا للتفريط في حقه الأبدي، سيقول الناس علينا كل كلمة شريرة كاذبين (متى 11:5). ولكن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا (رومية 18:8).

شواهد مرجعية: لوقا 27:10 (انظر تثنية 5:6؛ لاويين 18:19)؛ لوقا 28:10 (انظر لاويين 5:18).

أفكار من جهة الصلاة: اطلب أن تتم إرادة الله في حياتك (لوقا 42:22).

اقرأ لوقا 12 -- 13

بغض النظر عن حجم المواهب أو القدرات أو الممتلكات التي لدينا، فإننا كوكلاء صالحين نستثمر هذه كلها في ملكوت الله، بدلا من أن نحتفظ بها لأنفسنا بطريقة أنانية. إننا كثيرا ما نحتاج أن نتذكر تحذير الرب القائل: تحفظوا من الطمع، فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته في أمواله (لوقا 15:12).

بعد ذلك ضرب لهم الرب مثلا عن خطورة الانخداع بالممتلكات، قائلا: إنسان غني أخصبت كورته. ففكر في نفسه قائلا: ماذا أعمل؟ ... وقال: أعمل هذا: أهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي (لوقا 16:12-18). بالعمل الشاق والتخطيط الجيد في مجال الزراعة الذي هو مجال شريف وجدير بالاحترام، أصبح هذا الرجل غنيا. فليست هناك أي إشارة إلى أنه قد جمع ثروته بطرق غير شريفة. ولكن خطيته القاتلة كانت أنه قضى عمره في الجمع لنفسه. لقد وصفه الله بالغباء، ثم أضاف قائلا: هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنيا لله [أي ليس غنيا في علاقته بالله] (لوقا 20:12-21).

أراد يسوع أن يقول أن القيمة الحقيقية للإنسان لا تتحدد بحجم الممتلكات المادية المختزنة، بل باكتناز الكنوز في السماء (متى 20:6). ولا بد أن المهتمين بالعالم سيختلفون معنا في هذا الرأي، وذلك لأنهم يقيسون النجاح بحجم الثروة والشعبية والنفوذ.

إن رسالة ربنا يسوع تتناقض تماما مع الطموح العالمي من جهة اكتناز المزيد والمزيد من الممتلكات كوسيلة للرفاهية اليومية والأمان المستقبلي. فلا ينبغي للمسيحي أن يهتم لحياته بما يأكل ولا للجسد بما يلبس. لأن الحياة أفضل من الطعام [أي ليست مجرد طعام] والجسد أفضل من اللباس ... بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم (لوقا 22:12-23،31). وهذا لا يعني أننا لا يجب أن نخطط للمستقبل، لأن هذا أيضا خطية إذ نكون مثل العبد الذي دفن وزنته. فهو لم يبذرها مثل الابن الضال، ومع ذلك فإنه في النهاية سمع السيد قائلا له: أيها العبد الشرير والكسلان! ... العبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية ... إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته (متى 24:25-46). وهذا يعني أننا ينبغي أن نسعى ونجاهد ونطلب ملكوت الله بكل قلوبنا تماما مثلما يفعل الرياضي الذي يبغي الفوز إذ يكون له هدف واحد أسمى وهو على استعداد أن يتحمل كل شيء من أجل تحقيق هذا الهدف.

إن الطريقة التي بها نشارك الآخرين في وقتنا ومواهبنا هي تعبير عن إيماننا المسيحي. فلقد علمنا المسيح أن الحياة تكون ممتلئة عندما نعمل على امتداد وبناء ملكوته بالمحبة والخدمة والعطاء للآخرين. فنحن أيضا يجب أن نعد أنفسنا لنكون بحسب ما يريدنا الله أن نكون لنتمم الأهداف التي خلقنا من أجلها. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة وغبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك ... لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة (1 تيموثاوس 9:6-10).

شواهد مرجعية: لوقا 27:13 (انظر مزمور 8:6)؛ لوقا 35:13 (انظر مزمور 26:118).

أفكار من جهة الصلاة: استرح في الرب؛انتظره بصبر (مزمور 7:37).

قرأ لوقا 14 -- 16

وصف الرب نوعين من الحياة: الأولى عن ابن مستهتر لا يهتم إلا بنفسه طلب أن يخرج من تحت سلطة أبيه، وسافر إلى كورة بعيدة، وهناك بذر ماله ... فابتدأ يحتاج... فلم يعطه أحد. فرجع إلى نفسه وقال ... أنا أهلك جوعا! أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك (لوقا 13:15-18).

إننا كثيرا ما نفكر عن الابن الضال أنه شخص ضلّ عن الإيمان. هذا صحيح ولكن يوجد ما هو أكثر من ذلك. فإنه قد بذر مال أبيه الذي كان يمكن أن يزداد كثيرا لو أنه ظل أمينا. وفي النهاية اكتشف مدى بؤسه، وإذ كان يصارع مع الإحساس بالفراغ وخزي الحياة الضائعة، عاد أخيرا إلى صوابه، فقام ورجع إلى أبيه قائلا: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك (لوقا 21:15). فإنه بعد أن تاب عرّفه الآب بمدى خطورة خطيته: لأن ابني هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوُجد! فابتدأوا يفرحون (لوقا 24:15).

هذه هي قصة الجنس البشري. إنها الطبيعة الإنسانية التي تمجد الإرادة الذاتية والكبرياء والاكتفاء الذاتي وتسعى إلى الاستقلال عن سلطان الله.

وكما أن الابن الضال اكتشف أن شفقة أبيه ومحبته كانت أكبر بكثير مما كان في تصوره، فإن كل خاطئ تائب سيكتشف أن الآب السماوي ينتظر، بحب وشفقة، تلك اللحظة التي فيها يغيّر الحياة الضائعة لكل من يأتي إليه. ولكن بالرغم من روعة ذلك، فإن السنين الضائعة لا تُستردّ ونتائجها لا تُمحى. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا (غلاطية 7:6).

بعد ذلك حكى يسوع قصة رجل أعمال غني، هذا الرجل لم يكتشف أبدا أنه قد "أضاع" حياته لأنه كان ناجحا جدا. فلم يكن لديه وقت للاهتمام باحتياجات لعازر الشحاذ أو أي شخص آخر. ولكنه مات بأسرع مما يتوقع، وفي العذاب نادى وقال يا أبي إبراهيم ... أرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني ... لأني معذب في هذا اللهيب (لوقا 23:16-24). ولم يكتشف إلا في هذه اللحظة أن العذاب أبدي، وأن بينه وبين إبراهيم هوة عظيمة قد أثبتت (لوقا 26:16). ومع أن الرجل الغني كان معذبا في هذا اللهيب ، إلا أنه لا توجد إشارة إلى أنه قد كذب أو غش أو سرق من أي إنسان. فإن خطيته كانت هي تجاهل احتياجاته الروحية الأبدية، وأيضا تجاهل احتياجات الآخرين. لقد كان يعيش لإرضاء نفسه فقط. فإن اهتمامه بالثروة والملذات احتل المركز الأول في حياته طاردا كل رغبة في معرفة الله أو في عمل مشيئته.

وقد أوضح الرب في محبته أن ما يمتلكه الرجل الغني هو خاص بالله وأنه يجب أن يُستخدم لتكريم الله وتمجيده.

إن حياتنا القصيرة على الأرض هي للاستعداد لأبدية لا تنتهي، لأن وطننا الحقيقي هو في السماء (فيلبي 20:3). لذلك لا يليق بنا أن نجعل الأولوية في حياتنا للكسب المادي ولإرضاء الجسد. إن البشر جميعا، أغنياء وفقراء، يشتركون في أمر واحد - وهو الموت. والفارق، على الأكثر، لا يزيد عن بضعة سنوات.

لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه [أي حياته في ملكوت الله الأبدي]؟ (مرقس 36:8).

أفكار من جهة الصلاة: اطلب الرب في الصلاة، فسوف يصغي إليك وينقذك من مخاوفك (مزمور 4:34).

اقرأ لوقا 17 -- 18

إن الشاب الذي ركض إلى يسوع، وسجد له قائلا : ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ (لوقا 18:18) لم يكن مرائيا، وإنما كان يشعر فعلا بالاحتياج الملحّ بدليل أنه سجد أمام يسوع غير عابئ بما قد يظنه الآخرون. ومن الواضح أنه كان يفهم أن يسوع هو المسيا وأنه توجد أبدية بعد هذه الحياة الجسدية بوجود شخصي وحقيقي. ففي الحياة بأكملها لا يوجد سؤال أهم من هذا، وهو أن يخطئ الفرد بشأن مصير نفسه، يعني أنه يفقد أسمى هدف في الحياة طوال الأبدية.

وقد كتب لوقا أن هذا الشاب كان رئيسا - ربما عضوا في السنهدريم. ويقول متى أنه شاب. والأناجيل الثلاثة تشير إلى ثروته الكبيرة (متى 20:19-22؛ مرقس 22:10؛ لوقا 18:18-23). ويدل سؤاله عن الحياة الأبدية على أنه كان فريسيا، لأن الحياة الآخرة هي من المعتقدات الرئيسية للفريسيين على عكس الصدوقيين الذين لم يكونوا يؤمنون بوجود حياة بعد الموت.

وردا على هذا السؤال الحيوي، قال له يسوع: يعوزك أيضا شيء. بع كل مالك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع ذلك حزن لأنه كان غنيا جدا . وكم أُحزن قلب الرب أن يرى شخصا أحبه يتحول عنه مفضلا الأشياء الزمنية على التلمذة له. لقد رفض أن يتخلى عن الحياة الممتعة التي كان متعلقا بها والأشياء التي كانت ثمينة في نظره - مثل أمانه المالي، ومركزه كرئيس، والامتياز الذي كانت الثروة تحققه له. لقد كان متدينا جدا وصادقا جدا، ولكنه كان أيضا شهوانيا جدا، والأخطر من هذا كله، أنه أضاع حياته إلى الأبد.

لاحظ جيدا أن السؤال لم يكن: بماذا "أؤمن"؟ بل: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ولكن يسوع لم ينتقد السؤال، وإنما أجاب عليه.

إلا أن هذا السؤال لا ينبغي أن يحوّر بحيث يعني أن الحياة الأبدية يمكن الحصول عليها بالمجهود الذاتي، إذ أنه لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس (تيطس 5:3). ولكن كما أشار يسوع إلى نفس هذا الرجل الصادق الذي جثا على ركبتيه أمامه، فمن المهم أن نعرف أن الإيمان بدون أعمال ميت (يعقوب 17:2). فيجب أن نسأل أنفسنا نفس السؤال الذي طرحه هذا الرئيس الشاب: "ما هو الشيء الذي يعوزني؟" هل قلوبنا وأذهاننا منشغلة بالأمور المادية أم بالأمور الأبدية؟ فإننا يجب أن نكون عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسنا (يعقوب 22:1).

يتضمن الخلاص أكثر من مجرد أن نؤمن ونجثو ونعترف بأن يسوع هو المسيا، فإنه حتى الشياطين يؤمنون (يعقوب 19:2). أما بشأن اكتناز الثروة، فإن يعقوب أخا الرب كتب قائلا: هلم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة (يعقوب 1:5). إن ما قاله يسوع بشأن الثروة نادرا ما يُقال في أمريكا.

ولكن يسوع قال: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله! لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله (لوقا 24:18-25).

شواهد مرجعية: لوقا 20:18 (انظر خروج 12:20-16؛ تثنية 16:5-20).

أفكار من جهة الصلاة: صل لأجل الذين يسيئون إليك (أعمال 59:7-60).

اقرأ لوقا 19 -- 20

لقد تغلغل دائما الفريسيون بين الجموع التي أحاطت بيسوع. لأنه كان السنهدريم يرسلهم في شكل لجان استقصاء طبقا لما يتطلبه الناموس في كل مرة تبدأ "حركة مسيانية". وكانوا عادة يمتدحون يسوع ادعاء منهم أنهم يريدون أن يتبعوه. ولكنهم في الحقيقة كانوا يحاولون أن يمسكوا عليه شيئا يمكنهم على أساسه أن يلقوا القبض عليه. فالمرحلة الأولى من الاستقصاء كانت مجرد الإصغاء. بعد ذلك كانوا يعطون تقريرا بما سمعوه. فلو ظهرت أي دلائل على ما يقال، كانت المرحلة الثانية تتضمن طرح الأسئلة.

في هذه المرة تآمر عليه الفريسيون بالتعاون مع أقلية من اليهود غير المتدينين الذين يسمون بالهيرودسيين، والذين كانوا يشجعون على الخضوع لروما (متى 16:22). وهكذا اشتركت المجموعتان المختلفتان في التفكير في طرح السؤال على يسوع، قائلين: يا معلم، نعلم أنك بالاستقامة تتكلم وتعلّم ولا تقبل الوجوه بل بالحق تعلم طريق الله. أيجوز لنا أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ (لوقا 21:20-22).

وحيث أن غالبية اليهود كانوا يكرهون بشدة أن يدفعوا جزية للحكومة الرومانية الأممية، فإن الجموع كانت ستتحول عن يسوع لو أنه قال نعم. وأيضا سوف يقول الفريسيون أن هذا ليس مسيا إسرائيل لأنه ينادي بالخضوع لحكومة أممية. أما إذا قال لا، فإن الهيرودسيين سوف يتهمونه بالتآمر ضد الحكومة الرومانية، ويمكن عندئذ لبيلاطس أن يلقي القبض عليه بتهمة الخيانة. ولو رفض الإجابة، فسيشك فيه الجميع. وهكذا ظن الفريسيون أنهم قد وضعوه في مأزق.

ولكن الرب يسوع في حكمته طلب منهم أن يُروه دينارا وهو العملة الرومانية التي كان اليهود يتعاملون بها. وسألهم يسوع قائلا: لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر . ولكن الجزء الباقي من تعليقه جاء في شكل توبيخ لاذع لريائهم إذ أضاف قائلا: وأعطوا ما لله لله . (لوقا 24:20-25). فبينما كانت الصورة على العملة تمثل السلطة الحكومية، إلا أن صورة الإنسان تمثل السلطة الإلهية، أي أنه يجب على الإنسان أن يكون معبرا عن الله في تصرفاته ومحبته وغفرانه وكرهه للخطية. ولا زالت كلماته هذه حقيقية، إذا أن المسيحيين الحقيقيين يجب أن يكون أمناء في أن يردوا لله الأشياء التي تخصه، فبهذه الطريقة ستذاع كلمة الله بشكل أكثر فعالية في كل أنحاء العالم.

كثيرون يدفعون الضرائب ليس إلا لكونهم يرتعبون من نتائج عدم دفعها. ولكن المسيحيين الحقيقيين يدفعون الضرائب، ليس من أجل إرضاء الناس، بل من أجل إرضاء الرب. وكنتيجة لذلك فإننا نقر عن دخلنا بصدق،ونقتطع فقط البنود المشروعة، ونتصرف دائما في حدود القانون كمسألة ضميرية. إننا كمسيحيين حقيقيين، قد نأسف على الطريقة التي بها تستخدم الحكومة أموال ضرائبنا. ولكن هذا لا يعفينا من دفع ما تطلبه الحكومة ولا من الصلاة لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب (1 تيموثاوس 1:2-1).

ينبغي على المسيحيين الحقيقيين أن يكونوا خاضعين لكل ترتيب بشري من أجل الرب، إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر (1 بطرس 13:2-14؛ أيضا رومية 1:13).

شواهد مرجعية: لوقا 38:19 (انظر مزمور 26:118)؛لوقا 46:19 (انظر إشعياء 7:56؛ إرميا 11:7)؛ لوقا 17:20 (انظر مزمور 22:118)؛ لوقا 28:20 (انظر تثنية 5:25)؛لوقا 37:20 (انظر خروج 6:3)؛ لوقا 42:20-43 (انظر مزمور 1:110).

أفكار من جهة الصلاة: صل وصم في الخفاء بحيث لا يعلم أحد سوى الرب (أعمال 30:10).

اقرأ لوقا 21 -- 22

كان عيد الفصح هو أقدس أعياد السنة الدينية اليهودية. فهو الذي يذكّر بتحرر إسرائيل من العبودية في مصر. ولكن بعد أن قدم يسوع المسيا نفسه كحمل الله، فإن أي احتفال بالفصح من جانب اليهود بعد ذلك يكون بلا معنى حيث أن المسيح قد تمم المعنى الحقيقي للفصح. (قارن خروج 7:12؛ 1 كورنثوس 7:5). في تلك الليلة أخذ خبزا وشكر وكسر، وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلا: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم (لوقا 19:22-20).

كان الرب يسوع عالما بالأهمية القصوى لتقديم نفسه كالذبيحة الحقيقية من أجل خطايا العالم، ولذلك فإنه لم ينم في آخر ليلة لخدمته على الأرض، بل مضى إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضا تلاميذه ... قال لهم صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة. وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى (لوقا 39:22-41)، أولا جاثيا وبعد ذلك ساقطا على وجهه أمام أبيه. لقد كان في منتهى الحزن حتى الموت على جميع خطايا البشرية التي كان مزمعا أن يحملها (متى 38:26). لقد صلى بلجاجة قائلا: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك (لوقا 42:22). والكأس تمثل خطايا العالم، وليس الصليب.

كم من الوقت استمر يسوع في الصلاة، لا أحد يعلم، ولم تكن صلاته طقسا مختصرا، بل كان في جهاد وكان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض (لوقا 44:22). وهذا يساعدنا على فهم مدى بشاعة الخطية ورداءتها في نظر الله.

كان يسوع يعلم أن الآب القدوس لا بد أن يتركه،كحامل للخطية، مع أنه ابن الله الوحيد (يوحنا 16:3). فإن الله القدوس بكل قدرته غير المحدودة لم تكن لديه طريقة أخرى بها يحقق غفران الخطايا وخلاص نفوس الملايين الذين سيعترفون به ربا على حياتهم. لقد استجاب الله صلاته، ليس بإعفائه من حمل الخطية، ولكن بإعطائه القوة لكي يحملها.

كانت الساعة على الأرجح الواحدة أو الثانية صباحا عندما جاء يهوذا، يتبعه الجند الروماني وحفنة من الحانقين، وسلم يسوع إلى القادة الدينيين. و "التجربة" التي كلم الرب تلاميذه عنها كانت هي خطية الجبن الأدبي الذي وقع فيه التلاميذ. فلو كانوا قد صلوا بدلا من الاستسلام للتعب، لما كانوا قد تخلوا عن سيدهم في ساعة الخطر والمحاكمة.

إن للصلاة أهمية أعظم مما نتصور في حياتنا اليومية. ومع ذلك فإن سماع صوت الله متكلما إلينا في كلمته له أهمية أعظم. فهو الإرشاد الوحيد لنا لنعرف كيف نصلي بطريقة فعالة. إن التقصير في الصلاة وفي معرفة مشيئة الله من خلال كلمته المعلنة لابد أن يقلل من فرصتنا في أن نستمر أمناء له. إننا نحتاج جميعا أن نتذكر كلمات التشجيع التي قالها الرب لبطرس: طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت إخوتك (لوقا 32:22).

شواهد مرجعية: لوقا 27:21 (انظر دانيال 13:7)؛ لوقا 37:22 (انظر إشعياء 12:53)؛ لوقا 69:22 (انظر مزمور 1:110).

أفكار من جهة الصلاة: اشكر الرب لأنه أرسل الروح القدس (يوحنا 7:16-8).

اقرأ لوقا 23 -- 24

كان الوقت هو أول الفجر ، بحسب رواية لوقا (لوقا 1:24)؛ والظلام باق ، بحسب قول يوحنا (يوحنا 1:20)؛ عند فجر أول الأسبوع ، بحسب ما سجله متى (متى 1:28)؛ وباكرا جدا في أول الأسبوع ، بحسب ما كتبه مرقس (مرقس 2:16)، عندما توجهت النساء إلى القبر المنحوت في الصخر الذي كان جسد يسوع قد وُضع فيه على استعجال. وكان أقصى ما يشغل أذهانهن هو: من يدحرج لهن الحجر عن باب القبر؟ (مرقس 3:16).

وكما أن النساء لم يفكرن في التخلي عن الرب الذي أحببنه لمجرد أن أبغضه العالم وصلبه، كذلك فإن محبتنا الحقيقية للرب ولكلمته لا يمكن أن تتأثر بالمقاومة. فإن هذا الحب سيتغلب على عداوة المجتمع وبغضته. إنه سيستمر في ولائه وتشوّقه لخدمة السيد، غير منتظر ساعة الضرورة الأخيرة بل مستغلا فرصته الأولى.

إن زوال الصعوبات أثناء تقدمنا بأمانة في طريق الخدمة، يذكرنا بتأكيد الرب لنا أننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل (غلاطية 9:6). كانت النساء قلقات بشأن من سيدحرج لهن الحجر عن باب القبر (مرقس 3:16). ومع ذلك لم يتوقفن عن الذهاب إلى القبر للتعبير عن محبتهن، فوجدن أن الصعوبة قد زالت (لوقا 2:24).

وقد سجل متى الزلزلة العظيمة، والرعب الذي أصاب الحراس الذين كانوا يحرسون القبر المختوم (متى 66:27)، عندما نزل ملاك الرب من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه (متى 2:28). كانت النساء قد أتين إلى القبر لإكمال عملية التحنيط. ولكن عندما دخلن لم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة ... قالا لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليس هو ههنا لكنه قام! (لوقا 3:24-6). كانت الرسالة واضحة؛ لقد قام يسوع متمما كلماته: لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضا (يوحنا 18:10). وأضاف الرجلان قائلين: اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل قائلا إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم. فتذكّرن كلامه (لوقا 6:24-8). عندئذ أسرعت النساء إلى الرسل ليخبرنهم بهذا الاكتشاف.

فبدلا من الاختبار المحزن أن يجدن جسد السيد في القبر، اكتشفت هؤلاء النساء رجاء جديدا وفرحا نقيا.

توجد دائما مشاكل "عديمة الحل" للشخص الذي يطلب أن يخدم الرب. فكيف سنتغلب - في ضعفنا - على مثل هذه الأوضاع المستحيلة؟ ربما نتساءل قائلين: من يدحرج لنا الحجر؟ ولكن بينما نحن نتقدم بالإيمان ونستمر في خدمة المحبة، سنندهش للطريقة التي بها تزول العقبات. فنحن أيضا لنا ملائكة تسير أمامنا: إذ أن ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم (مزمور 7:34؛ 11:91).

فلا النساء ولا الرسل المتشككين كانوا يتوقعون مثل هذا الاختبار المجيد في صباح القيامة هذا. ولكن الرب دائما لديه أشياء لنا أفضل مما نتصوّره ممكنا: والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدا مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا (أفسس 20:3).

شواهد مرجعية: لوقا 30:23 (انظر هوشع 8:10)؛ لوقا 34:23 (انظر مزمور 18:22)؛ لوقا 46:23 (انظر مزمور 5:31).

أفكار من جهة الصلاة: صل لأجل الآخرين بأسمائهم (لوقا 31:22-32).

 

عودة للفهرس