الفصل الثالث مجــال
النعمــة
"لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات … لأجل الفجار" (رو6:5)
أولاً :- دائرة الأشرار.
ثانياً :- دائرة الضعفاء.
مجال النعمة
قد تقول في نفسك أنى غير مستحق لنعمة الله لأني خاطئ وشرير. وربما يقودك
هذا الفكر إلى الابتعاد عن عمل النعمة وعدم الانتفاع ببركات الفادي.
ولكن اعلم يا أخي أنك بهذا الشعور أنت في مجال عمل النعمة. وإليك توضيحاً
لهذه المجالات:
أولاً :- دائرة الأشرار
من الخطأ أن تظن بأن عمل النعمة قاصر على الأبرار والقديسين. ولكن اعلم
أن النعمة لا تعمل إلا في وسط الأشرار والفجار. أما أولئك الأبرار في
أعين أنفسهم، فالنعمة بعيدة كل البعد عنهم ما لم يقروا أنهم خطاة محتاجين
إلى نعمة الله. وفي مثل الفريسي والعشار نري هذه الحقيقة واضحة بكل جلاء.
فالفريسي كان باراً في عيني نفسه وأخذا يعدد أعمال بره من أصوام وصدقات
وتقوى ..ولكنه مسكين لم ينتفع بنعمة الله. أما العشار الخاطئ فوقف شاعراً
بخطيته واحتياجه إلى النعمة قائلا "اللهم ارحمني أنا الخاطئ". فذهب إلى
بيته مبرراً. (لو13:18).
فمجال النعمة المخلصة هو دائرة الأشرار، فقد قال السيد "لا يحتاج الأصحاء
إلى طبيب بل المرضي … لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة"
(مت12:9،13). فلا تظن أنك لا تستحق النعمة لأنك شرير، فالواقع أنه لا أحد
يستحق النعمة إلا الشرير الذي يشعر بأنه فاجر"ويؤمن بالذي يبرر الفاجر"
(رو5:4). وما أعجب ما قاله أليهو أحد أصدقاء أيوب موضحاً هذه الحقيقة
فقال "أخطأت وعوجت المستقيم ولم أجاز عليه. فدي نفسي من العبور إلى
الحفرة فتري حياتي النور" (اى27:33،28).
قصـة تجديد فيلسوف:
سيظل تجديد أوغسطينوس من الحوادث البارزة في التاريخ، فقد كان شاباً
خليعاً مستهتراً. ومع أن والدته كانت مسيحية بقى هو وثنياً، وكان يجتهد
في العثور على المبادئ التي باعتناقها يتشجع على أعمال الإثم والفجور.
على أنه كان يتمتع بالرغم من هذا على امتيازين عظيمين: الأول.. أم تقية
مصلية طالما سكبت دموعاً غزيرة أمام الرب لأجله. وكان يتمتع بامتياز آخر
هو أصدقاء أفاضل انتهزوا كل فرصة ليشجعوه على التفكير الصالح وإلى إرجاعه
عن غوايته. وبينما كان في صراعه مع قوات الشر وهو تارة يقوم وتارة يسقط،
جاء إلى مدينة ميلان حيث كان يقود الكنيسة رجل صالح من أعلامها هو الأسقف
أمبروز، وقد بلغت أزمة أوغسطينوس النفسية إلى أقصى مداها. ويقص هو قصته
فيقول أنه كان جالساً مع صديق له ونفسه تضطرم بنيران المعركة الداخلية،
معركة محاولة الإفلات من العادات القديمة ومن تكثير قيودها مع ترك كل
الرفاق الأردياء وإقامة الحياة المسيحية التي يجب أن يحياها بفقرها
ومتاعبها. قال: وبينما أنا أجلس مع صديقي وإذا التفكير يقودني إلى تكويم
كل بؤس أمام نفسي، فثارت في داخلي عاصفة من الألم سببت أمطاراً غزيرة من
الدموع. وترك صديقه حتى يمكنه أن يطلق لنفسه العنان في البكاء وهو في
الوحدة. فجلس تحت شجرة التين في الحديقة، وهو يصرخ في مرارة روحه: "إلى
متى ؟ غداً؟ لماذا ليس الآن؟_ لماذا لا توضع في هذه الساعة النهاية
لنجاستي؟" قال: "كنت أتكلم هكذا وأبكي وأنا منكسر القلب، عندما سمعت من
بيت مجاور صوت طفل يغني ويكرر كثيراً هذه العبارة: "خذ واقرأ! خذ واقرأ!"
وحالاً تغير حالي وبدأت أفكر عما إذا كان الأطفال متعودين أن يلعبوا
بإنشاء مثل هذه الكلمات. كما أنني لم أستطيع أن أذكر أنى سمعت شيئاً كهذا
قط. فكفكفت دموعي وقمت متخذاً هذا الأمر من الله أن أفتح الكتاب وأقرأ
أول إصحاح أجد. فرجعت بشوق إلى المكان الذي كنت جالساً فيه مع صديقي حيث
كانت رسالة بولس الرسول إلى رومية، وكان قد بدأ يدرسها، فأمسكتها
وفتحتها. وبسكوت قرأت الفصل الذي وقعت عليه عيناي: "لا بالمضاجع والعهر،
لا بالخصام والحسد، بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد
لأجل الشهوات" (رو13:13،14). فلم أستطع أن أقرأ أكثر من ذلك ولم تكن لي
حاجة إلى أكثر مما قرأت، لأنه في الحال عندما وصلت إلى هذه الجملة شع نور
وضاح إلى داخل نفسي وإذ بكل ظلمات الشدة تنقشع!" وهكذا تجدد أوغسطينوس
فترك كل مسلك سيئ، وعمده الأسقف أمبروز وخرج من المعمودية وهما يرنمان
معاً، وفرح قلب أمه وصار أوغسطينوس من أبر آباء الكنيسة وقد ترك بحياته
وكتبه آثاراً طيبة بركة لكل الأجيال أكثر من أي رجل بعد عصر الرسل.
أرأيت إذن أن الله قد جاء لكي يبرر الفاجر، فهو لم يخلصنا لأننا أبرار بل
ليجعلنا نحن الفجار أبراراً. هذا ما وضحه معلمنا بولس الرسول بقوله
"متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة
بالإيمان بدمه لإظهار بره من اجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله.
لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع"
(رو24:3ـ26).
إن حقيقة موت المسيح نيابة عن البشرية حقيقة قديمة، ولكنها تصبح اكتشافاً
جديداً له وقعه عندما يخصص الإنسان هذا العمل له شخصياً. وما أفدح
الخسارة التي تلحق بمن لا يخصص لنفسه هذا الخلاص. ومبدأ تخصيص الفداء
للنفس قد وضحه معلمنا بولس الرسول إذ خصصه لنفسه شخصياً بقوله "أحبني
وأسلم نفسه لأجلي" (غل20:2).
آه يا أخي ليتك تقبل يسوع مخلصاً شخصياً لك.
ثانياً:- دائرة الضعفاء
ربما تتباعد عن الله وتضطرب عظامك بسبب ضعفاتك ظنا منك أن الله يبغض
الضعفاء الذين أنت منهم،لأنك لا تستطيع أن تعيش بالقداسة، وكما تريد أن
تتقدم في التقوى تجد نفسك هابطاً في لجة الخطية.. ولهذا تحسب نفسك أنك
غير مستحق لنعمة الله!.
ولكن اعلم يا أخي أن المسيح قد جاء من أجل الضعفاء أمثالي وأمثالك، إذ
يقول الكتاب "لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل
الفجار" (رو6:5). فمن هذا نرى أن المسيح يرثي لضعفاتنا كما قال بولس
الرسول "لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مجرب في كل
شئ مثلنا بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة، ونجد
نعمة،عوناً في حينه" (عب15:14،16).
هذا عن سر مجيء المسيح،وهو سر مجيء الروح القدس أيضاً لكي يعيين ضعفاتنا،
إذ يقول بولس الرسول "فأننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن
وليس هذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في
أنفسنا … وكذلك الروح أيضاً يعيين ضعفاتنا" (رو22:8ـ26).
ويعلن لنا لوقا الرسول هذا السر في قول السيد المسيح لتلاميذه "لكنكم
ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم" (أع8:1).
وقد وضح لنا بولس الرسول حكمة الله من اختياره للضعفاء، فمن جهة لكي تظهر
نعمة الله وتكمل قوته فيهم. لأنه إن اختار قوما أقوياء فكيف تظهر قوة
الله فيهم. لهذا قال الرب لبولس "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف
تكمل"(كو9:12). ومن جهة أخري اختار الله الضعفاء ليخزى الأقوياء إذ قال
الرسول "اختار الله ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء" (1كو27:1). فلماذا
تتباعد والرب لا يختار إلا الضعفاء لكيي يتمجد فيهم؟!.
علاوة على ذلك فان كان الرب يوصي الناس أن يسندوا الضعفاء بقوله على لسان
بولس الرسول "اسندوا الضعفاء" (1تس14:5). أفلا يسندهم هو بالأولي!! لهذا
نراه يشجع الضعفاء قائلا "ليقل الضعيف بطل أنا" (يو10:30).
لقد أدرك بولس الرسول سر معاملة الله للضعفاء ولهذا نراه يفتخر بضعفاته
إذ يقول "سأفتخر بأمور ضعفي" (2كو30:11). وأيضاً "لا أفتخر إلا بضعفاتي"
(2كو5:12). ثم يكشف لنا الستار عن سر هذا الافتخار فيقول "بكل سرور أفتخر
بالحري في ضعفاتي لكي تحل على قوة المسيح.. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ
أنا قوي" (2كو10:9) .؟
فلماذا تتباعد يا أخي الضعيف عن الله؟ أقول لك إنك تتباعد لأنك تريد أن
تأتى إلى الله كاملا ظنا منك أنه لا يقبل الضعفاء والمساكين، وعندما
تكتشف ضعفك ونقصك تظن أنه يبغضك ولن يقبلك!! اعلم يا عزيزي أنك تفهم
الموضوع عكسياً!! فقد جاء المسيح من أجل الضعفاء والفجار "لأن المسيح إذ
كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين من لأجل الفجار" (رو6:5). تأمل في ذلك
جيداً لتري أن الله مستعد أن يرحب بك رغم ضعفك. بل أن الله يريد الضعفاء
ليعطيهم القوة فيتمجد فيهم.
اذكر يا أخي بطرس الرسول الذي كان ضعيفاً وأمام الجارية ينكر المسيح.
(مت70:36). فهل رفضه المسيح أم أعطاه قوة حتى يقف أمام الرؤساء والمجامع
ويتكلم بكلام المسيح بكل مجاهرة. (أع14:2ـ36). واذكر بولس الرسول الذي
عانى كثيراً من ضعفاته أمام الخطية حتى صرخ صرخته الشهيرة "الإرادة حاضرة
عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد … ويحي أنا الإنسان الشقي
من ينقذني مكن جسد هذا الموت" (رو18:7،24). هل رفضه الله ولم يقبله أم
وشحه بالقوة حتى قال "أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني" (فى13:4).
واذكر داود النبي الذي بسبب ضعفه سقط في أشنع الخطايا، فهل رفضه الله أم
رفع عنه خطيته وعندما طلب منه القوة بقوله "بروح منتدبة (الروح القدس)
أعضدني" (مز12:51). يستجيب له الرب حتى أننا نسمعه يقول "أحبك يارب يا
قوتي" (مز17:59). ولهذا نجد أشعياء النبي يقرر هذه الحقيقة بقوله "هو ذا
الله خلاصي فاطمئن ولا أرتعب لأنه ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي
خلاصاً" (أش2:12).
وهنا يعترضنا سؤال: كيف نحصل على هذه القوة؟
ويرينا بولس الرسول الوسيلة التي بها نحصل على القوة بقوله "بسبب هذا
أحنى ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح لكيي يعطيكم بحسب غني مجده أن
تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن. ليحل المسيح بالإيمان في
قلوبكم" (أف14:3ـ17).
فليتك يا أخي تحني ركبتيك لكي تتأيد بقوة الروح في الداخل، ويحل المسيح
بالإيمان في قلبك. اصرخ مع داود النبي قائلا: "ارحمني يارب لأني ضعيف"
(مز2:6). ولا بد أن يستجيب الرب لأنه جاء من أجل الضعفاء ليعطيهم القوة.
|