مريم أم المسيح
بعدما دخل القس فادي عبد المسيح، وصديقه أستاذ الدين ناجي فياض، إلى بيت
الشيخ عبد العليم الشرقاوي، استقبلهما الحضور، الذين كانت ذقونهم كثيفة
السواد، بترحاب مميز مع الحيطة والحذر من هؤلاء المشركين بالله. فشكرهم القس
فادي عبد المسيح لأجل دعوتهم إياهما إلى حلقة العلم والمعرفة،
وعلى
الثقة التي وضعوها فيهما، فأكد لهم احترامه التام، وأضاف بأنّ مضمون الأبحاث
ربما لن يلقى القبول عند الجميع، مؤكداً
على
أنّ الحق المكتوب من الصعب علينا تغييره أوتحريفه حتى يلقى القبول عند
الجميع. أكد أنّ الاختلافات الموضوعية والجوهرية، لن تقلل من احترامنا
المتبادل لبعضنا البعض.
افتتح الشيخ عبد العليم الشرقاوي اللقاء بتلاوة البسملة، والثناء على محمد
وأتباعه، ووجّه سؤاله للضيفين قائلا:
ماذا كُتب في انجيلكم عن مريم أم عيسى قبل أن يزورها الملاك جبريل، ويبشّرها
بالمولود الموعود؟؟
أجاب القس فادي عبد المسيح:
نقرأ في الإنجيل، أنّ مريم العذراء كانت مخطوبة لشاب ينتمي إلى ذرية داود
اسمه “يوسف”، كلاهما عاش في مدينة الناصرة بهضبة الجليل. كان يوسف على وشك
الزواج بعروسه في أقرب وقت.
سأل الشيخ عبد الله السفياني:
ماذا تعرف عن والدي مريم؟؟
أجاب ناجي فياض:
الأناجيل لا تخبرنا كثيراً عن قبيلة مريم، لكن نجد، حسب التقاليد، ان اسم
أمها كان “حنة”، وكانت عائلتها محافظة
على
تقاليدها، وتمارس شريعتها بشكل منتظم.
أضاف الشيخ أحمد البعمراني:
إن كتابنا يعرف أكثر من الإنجيل، إذ يخبرنا بأن والدها كان يلقّب بـ “عمران”،
وابنه اسمه “هارون”،
وكانت مريم تلقّب بـ “مريم بنت عمران وأخت هارون” (آل عمران 3: 35 ومريم 19
:28 والتحريم 66 :12).
أجاب ناجي فياض:
إن القصة التي تتحدثون عنها لا تشير إلى مريم أم يسوع المسيح، بل مريم أخرى.
تخبرنا التوراة بأن أباها هو”عمرام”، وأمها تدعى “يوكابد”، وكان لهما ولدان
وبنت، وهم: هارون وموسى ومريم (انظر: خروج 6: 18-20 وعدد 26: 59) عندما حاول
فرعون مصر أن يقتل أطفال بني يعقوب، خبّأت مريم أخاها الرضيع موسى في سلّة لا
يَنْفُذ إليها الماء، ووضعتها على سطح نهر النيل، قرب المكان الذي تستحم فيه
أميرات فرعون. عندما حضرت الأميرات للاستحمام وجدته إحداهن، وتبنّته ابنة
فرعون، وسلّمته إلى أمه كي ترضعه (خروج 2: 1-10 وسورة طه 20: 23-29).
أضاف ناجي فياض:
تنتمي عائلة عمران إلى أسرة نبوية. هارون كان كاهنا، وموسى كليم الله، ومريم
نبية. غير أن المشكلة تكمن في أن مريم أخت هارون عاشت 1350سنة
قبل مريم أم
يسوع، كما أن مريم أخت هارون عاشت وترعرعت في مصر، في جبل سيناء؛
بينما
عاشت مريم أم يسوع في الناصرة بفلسطين. ثم إن مريم أخت هارون كانت تنتمي إلى
سبط اللاَّويين؛ بينما مريم وخطيبها يوسف كانا ينتميان إلى سبط يهوذا. هناك
اختلافات واضحة بين المريمين، سواء من خلال التاريخ، أوالمنطقة الجغرافية،
أوالبيئة التي عاشتا فيها. فهما شخصيتان تختلفتان عن بعضهما البعض.
قال الشيخ محمد الفيلالي:
ربما كان في بني اسرائيل رجال متعددون يلقبون باسم “هارون”، وكان هناك أخ
لمريم أم عيسى يلقب بـ “هارون”.
أجاب ناجي فياض:
لن نختلف حول هذه النقطة الحساسة، وسنضع الفكر والمنطق حكمين بيننا.أنا أعتقد
بأن القصتين مختلفتان تماماً، لا تتعلقان بشخصية واحدة، فالحقائق التاريخية
واضحة، تخبرنا بأنّ المريمتين عاشتا في زمانين منفصلين عن بعضهما البعض.
انتصب الشيخ عبد السميع الوهراني قائماً وقال:
أمّا نحن فنعرف أن القرآن معصوم عن الخطأ. إنّه وحي إلهي خالص، ولا يمكن
للقرآن الكريم أن يحتوي على أخطاء مثل باقي الكتب، وكفى بالله وكيلا.
عمّ الضجيج الغرفة نتيجة ما قاله الشيخ عبد السميع الوهراني، فتدخل الشيخ عبد
العليم الشرقاوي ليهدئ من روعهم، وقال:
أيها الإخوة الأحباء، اسمعوا وَعُوا ولا تُقَعْقِعُوا. إن الضيفين لم يقولا
أن القرآن يتضمن أخطاءً، ولم يلمحا إلى ما استنتجتموه، بل أخبرانا بما
هومكتوب في التوراة والإنجيل. فمثل هذه الاختلافات لن تعيقنا، إذ من المهم أن
نستمر ونتعمق فيما هومكتوب وغير معروف ومتداول عندنا.
قال ناجي فياض:
يُخبرنا الإنجيل بشكل واضح، أن الملاك جبرائيل ظهر لمريم كي يزف اليها
البشرى، فاسمحوا لي أن أقرأ عليكم الآيات من الإنجيل، التي تطرقت إلى هذا
الموضوع:
“وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللّهِ
إلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ
مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ
الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ سَلاَمٌ لَكِ
أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي
النِّسَاء. فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا
عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!”
(انجيل لوقا 1: 26-29).
أجاب التاجر البشير الدمشقي:
نستخرج من هذا الإعلان اسم المدينة التي أرسل الله إليها روحه، وهي الناصرة.
أمّا جبريل فلم يلتق بمريم خارج البيت، بل زارها في بيت والديها. كما أنهالم
تصرخ من الفزع أوالخوف عندما رأته، بل تحدثت معه بهدوء. ونجد أن الملاك
هوالمبتدئ بالكلام، إذ حياها بلطف، وألقى عليها السلام، ووصفها بالمباركة بين
النساء. وهكذا شهد جبريل بأنها مباركة أكثر من الأخريات.
قال الشيخ عبد السميع الوهراني:
هذا النص يشبه النص القرآني. الله اختار مريم من بين نساء العالم، فأرسل
إليها الملاك جبريل والتقاها على انفراد، وكانت مريم مضطربة عندما رأت الروح
المنير في الوهلة الأولى، كما جاء في القرآن.
اقترح ناجي فياض أن يصغوا إليه بانتباه شديد، كي يقرأ عليهم ما قاله الملاك
لمريم حسب الإنجيل:
“فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ
وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللّهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ
ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ
يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ،
وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ
نِهَايَةٌ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا
لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟”
(لوقا 1: 30-34).
قال الشيخ عبد الله السفياني:
لقد شهدت مريم في الإنجيل كما في القرآن، بأنها لم تكن
لها علاقة مع أي رجل من قبل،
وبأنها لم تتزوج بعد. فأنا أعتبر هذه الشهادة مهمة للغاية، لأنها توافق
القرآن والإنجيل بنفس الوقت.
سأل الشيخ عبد العليم الشرقاوي:
لماذا كان ينبغي على ابن مريم أن يسمى “يسوع” وليس “عيسى”؟ ولماذا هذا
الاختلاف الجذري بين الإنجيل والقرآن؟؟
قال ناجي فياض:
اسم يسوع يعني بالعبراني “الرب يُعين، الرب يُخلِّص” أمّا اسم عيسى، فهي
الكلمة السريانية المترجمة لاسم يسوع ذات الأصل اليوناني. ربما سمع محمد إسم
“عيسى” من بعض العبيد المسيحيين الذين كانوا بمكة. أمّا الاسم العربي “يسوع”
فهوقريب الإيقاع أو”النغمة” من الاسم العبراني الأصلي “يشوع”.
قال الشيخ أحمد البعمراني:
إني لجدُّ مسرور لأن جبريل لم يعلن لمريم بأن عيسى هو”ابن العلي”، بل وضح لها
بأنه سيلقّب بهذا الاسم، إلا أن الجماهير عندما رأت معجزاته العظيمة وآياته
الخارقة أضافوا هذا اللقب لاسم المسيح وسموه بـ “ابن العلي”.
أجاب القس فادي عبد المسيح:
نجد لهذا اللقب نبوءة قديمة. عندما أعلن رب العهد
للنبي
داود منذ ألف سنة قبل ولادة يسوع المسيح، حيث أكد له بأنه سيقيم له من ذريته
ملكاً، والذي سيمتد إلى الأبد، وهوفي الوقت نفسه ابن الله وسيشمله بروحه:
“مَتَى كَمِلَتْ أَيَّامُكَ وَاضْطَجَعْتَ مَعَ آبَائِكَ أُقِيمُ بَعْدَكَ
نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. هُوَ
يَبْنِي بَيْتاً لاِسْمِي، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى
الأَبَدِ. أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً...”
(2 صم 7: 12-14).
تدخل الشيخ عبد السميع الوهراني:
إن هذه النبوءة لا تنطبق على عيسى، فالمسيح عيسى لم يكن ملكاً بل رسولا لله،
وما كان يملك أسلحة ولا جيشاً أوعتاداً ولا مالا. لم يكن جبّاراً ولا عنيداً،
فالرومان ربما صنّفوه من بين الثوار، لأنه كان محاطاً دائماً بالجموع الذين
يركضون إليه كلّما لمحوه ومعظمهم كانوا من الفقراء والمرضى والمنبوذين، لكن
الحقيقة هي أن المسيح كان من المتصوفين الزهاد المعرضين عن الدنيا ومتاعها،
لهذا لم يسْعَ إلى بناء مملكة دنيوية.
أجابه الشيخ عبد العليم الشرقاوي:
كان عمل عيسى جباراً، لقد غيّر الأنانيين إلى محبّين وجدّد المتكبّرين
ليتواضعوا، فانتصر على الموت وارتفع إلى العُلَى، رغب في تكوين أمّة روحية
أساسها الرحمة والحق، لذلك سيظل عيسى دائماً الملك الروحي المقتدى به.
قال القس فادي عبد المسيح:
اصغوا إلى كلمة الوحي وتَدبَّروا وتعمّقوا فيها، فعيسى هوابن داود، وسمي في
الوقت نفسه “ابن الله”. لم تفهم مريم هذا السر وكل ما أخبرها الملاك عنه، لكن
على الرغم من ذلك لم تعارض قوله، كما أن الملاك تعامل معها بلطف بالغ إذ لم
يجبرها على قبول الوعد، بل شرح لها الأمر بكلّ أناة ومحبة وأخبرها أنها سوف
ترزق بطفل بدون مضاجعة ذكر، فنقرأ:
“فَأَجَابَ الْمَلاَكُ اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَةُ
الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ
يُدْعَى ابْنَ اللّهِ. وهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ
أَيْضاً
حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ
لِتِلْكَ الْمَدْعُوَة عَاقِراً، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ
لَدَى اللّهِ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ
لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ”
(لوقا 1: 35-38).
قال الشيخ أحمد البعمراني:
الآن ندرك صدق القرآن، فمريم لم تحبل بعيسى عن طريق رجل بل بواسطة الروح
القدس، إذ نفخ الملاك جبريل روح الله فيها، فتكوَّن الابن في أحشائها.
أضاف ناجي فياض:
لا نقرأ في الإنجيل أن جبرائيل نفخ روح الله في مريم، فجبرائيل مخلوق، أمّا
روح الله فهوحي وموجود قبل كل الدهور. إنه أزلي، فالروح القدس خيم على
العذراء حتى ولد الابن الروحي منها.
قال الشيخ عبد السميع الوهراني:
الحمد لله، لا نقرأ في هذا النص بأن عيسى ابن الله بل لقّب به،كما أن الوحي
لا يخبرنا بأن الله عاشر مريم، بل إن روح الله خيم عليها. فالإنجيل قد صدق
القول وهوموضع تقدير واستقامة.
قال الشيخ عبد العليم الشرقاوي:
تأثرت كثيراً من وحي جبريل بأن ابن مريم قدوس. فالقداسة تعني الخلومن كل
خطيئة أوشبه خطيئة وعدم الانفصال عن
الله، وهذه الصفة تختص بالله. مات عيسى وهو منفصل عن الإثم منذ
ولادته، إذ
أثبت أنه بالفعل من الله وفيه وإليه.
أجابه القس فادي عبد المسيح:
عندما لم تتمكن مريم من استيعاب السر الذي أعلنه لها الملاك بأنها ستلد ابنا
وهي عذراء، لم يغتظ جبرائيل أويفقد صبره، بل ساعدها
بتأنّ وأورد لها مثلا عملياً عن نسيبتها أليصابات العاقر زوجة زكريا التي هي
الآن حبلى أيضاً، عندئذ أدركت مريم أن كل ما هومستحيل عند الإنسان ممكن عند
الله.
تدخل الشيخ عبد الله السفياني:
لم يصدر الله أمره المعتاد “كن فيكون”، بل أرشد روحه أن يوضح ويفسر لمريم
السر خطوة خطوة، حتى تدرك كيف يصير المستحيل ممكناً. فلماذا أظهر جبريل هذا
الصبر الفائق نحوهذه الفتاة؟؟
أجاب ناجي فياض:
لا يرغب الرب في الخضوع المطلق بدون فهم، كما لا يرغب في تصرفات العبيد الذين
يطيعون سادتهم بدون عقل أوفكر، بل يحب أن ينشئ فيهم الإيمان والمعرفة
والإرادة، وينتظر منهم التسليم الطوعي من صميم قلوبهم، فإلهنا ليس جبّاراً بل
أبٌ حنونٌ.
أضاف الشيخ عبد العليم الشرقاوي:
أثّرت فيَّ كلمات مريم التي نطقت بها بعد تفكير طويل عندما قالت: “أنا أمة
الرب ليكن لي حسب قولك” لم يأمرها الله بالخضوع والانكسار بل أحيا فيها
الإيمان والثقة والرجاء، إنه محب ومن يعرفه يختبر ويحصل على محبته.
|